أنسام عبدالله تكتب لـ(اليوم الثامن):

إعلام الجنوب بعد الحرب.. من الثورة إلى الدولة.. لماذا تعثّر التحول؟

يشكّل الإعلام في جنوب اليمن مرآة لصراع طويل مع الإقصاء والهيمنة، وقد وجد نفسه بعد التحرير أمام تحدٍ صعب يتمثل في الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، وهو تحول لم يكن سلسًا أو شاملًا، بل كان مثقلًا بإرث من التجزئة والتشظي والخطابات الفردية التي حالت دون بناء خطاب إعلامي جامع ورشيد. 

وكان لا بد لنا من الوقوف حيال ذلك لنحاول تفكيك طبيعة هذا التحول، واستعراض المشهد الإعلامي الجنوبي من زاوية نقدية، لنحاول الإجابة على سؤال عن أسباب تعثر التحول، ونتأمل في نماذج ناشئة تحاول استعادة المعنى المؤسسي للإعلام، ونقدم اقتراحات ورؤى نرى أنها عملية لإعادة بناء هذا القطاع بما يخدم استقرار الجنوب واستقلالية قراره الإعلامي.

ينقسم الإعلام في الجنوب إلى نوعين الأول إعلام ثوري شعاري تغلب عليه اللغة التعبوية والنبرة الانفعالية، والثاني إعلام مؤسسي يحاول تقديم المحتوى بمهنية وحياد نسبيين. 

إذ لوحظ أن غالبية الأقلام التي نشأت في ظل النضال الجنوبي الطويل ضد التهميش اختارت أن تبقى في مساحة التعبير العاطفي والانتصار للمظلومية، دون أن تنتقل إلى مرحلة إنتاج المعرفة الرصينة أو العمل ضمن مؤسسات إعلامية ذات طابع رسمي أو استقصائي. وفي ظل غياب مرجعية إعلامية واضحة، نشأ فراغ خطير ملأته وسائل إعلام تمارس نوعًا من الشخصنة، حيث تحوّل الإعلام في أحيان كثيرة إلى أداة للدفاع عن رموز وتيارات معينة، على حساب المصلحة العامة، ما ساهم في تزييف الواقع وتشويه إدراك الجمهور.

 

رغم هذا المشهد القاتم، شهدت الساحة الإعلامية في الجنوب محاولات ناضجة لتأسيس إعلام محترف، حيث برزت مؤسسات مثل مؤسسات "اليوم الثامن للإعلام والدراسات" و"عدن الغد للإعلام" ومنصة "سوث24 للإعلام"، وهي نماذج تقدم محتوى متماسكًا إلى حدّ كبير، وتسعى لمجاراة التحولات الإعلامية الإقليمية، لكنها تظل محاولات محاصرة في بيئة لم تكتمل فيها شروط النضج المهني، كما أنها تفتقر إلى الدعم المؤسسي من جهات رسمية أو تنظيمية، وتواجه منافسة غير عادلة من إعلام مدعوم سياسيًا أو ممول خارجيًا.

 وعلى الجانب الآخر، لا تزال وسائل الإعلام الرسمية مثل مؤسسة "14 أكتوبر" للصحافة والنشر، تقدم أداءً نمطيًا لا يتماشى مع متطلبات اللحظة، إذ تفتقر إلى الجاذبية البصرية والطرح التحليلي العميق، وتكتفي بتقديم التغطيات البروتوكولية، ما يجعلها بعيدة عن المزاج الإعلامي العام.

 

الإشكال الأخطر يتمثل في أن الإعلام الجنوبي لا يزال بلا مظلة موحدة أو ميثاق شرف ينظم عمله، ما يجعل كل وسيلة تعمل بمنطقها الخاص وتتحرك وفق أجندة من تمثله أو تموله. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء وكالة أنباء جنوبية رسمية، قادرة على أن تكون مصدرًا محايدًا وموثوقًا للمعلومة، وسقفًا جامعًا للتغطيات والتقارير والتحليلات، كما أن إنشاء هذه الوكالة يجب ألا يكون على النمط الحكومي التقليدي، بل وفق رؤية حديثة ترتكز على الشفافية، وتفتح أبواب التعاون مع الصحافة الدولية ومراكز الدراسات، وتوفر تدريبات مهنية للكوادر الإعلامية المحلية، بما يخلق بيئة صحفية تتجاوز الولاء السياسي نحو الولاء المهني.

 

ومن المهم الإشارة إلى أن معضلة الإعلام الجنوبي ليست تقنية فقط، بل هي انعكاس مباشر لحالة الانقسام السياسي والتشظي الاجتماعي، إذ يصعب الحديث عن إعلام موحد في ظل تباينات ميدانية ونخبوية حادة، غير أن الإعلام يمكن أن يكون أداة لتقليص الفجوة إذا ما تم ضبط إيقاعه وتشبيكه بمؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، كما أن إدخال أدوات التحليل الرقمي واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد اتجاهات الجمهور، يمكن أن يرفع من كفاءة الأداء الإعلامي ويحدّ من انتشار الشائعات التي تتغذى على غياب المصادر الموثوقة.

 

إن الإعلام الجنوبي يقف اليوم أمام مفترق حاسم، فإما أن يستمر في إعادة تدوير خطابات الماضي التي أفرغت الثورة من بعدها المؤسساتي، أو أن ينفتح على ممكنات بناء خطاب إعلامي مستقل يعيد للجنوب مكانته وهويته ويعزز من فرص الاستقرار والتنمية. وتحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية وتشريعية، ومبادرات مهنية شجاعة تعيد تشكيل الوعي الإعلامي وفق قواعد الحياد والاحتراف لا الانتماء الأعمى، وبذلك يمكن القول إن الإعلام لن يكون مجرد انعكاس لما يحدث، بل سيكون جزءًا من صناعة الحدث وتوجيهه وتحليله، وهي المهمة الأهم في هذه اللحظة التاريخية الفارقة.