روعة جمال تكتب لـ(اليوم الثامن):

نساء يتناولن القات في الاعراس.. كيف انتقل تعاطي القات بين النساء في جنوب اليمن

في زمن تتداخل فيه خطوط الحداثة مع أطر العادات والتقاليد، تبرز المشاكل الاجتماعية كمرآة معكوسة لصراعات الهوية بين الماضي الجميل والحاضر المليء بالتحديات والابتذال أحيانًا. 

لطالما كانت الأعراس في الجنوب رمزًا للفرح والاحتفال والتلاقي الاجتماعي، حيث يشكل الشعر والغناء والرقص ذخيرة ثقافية تعكس عمق الروابط الاجتماعية وترابط العائلات. 

ومع ذلك، بات التداخل الثقافي واضطراب الهوية طريقًا يمر عبر هذه المناسبات، فظهور ظواهر جديدة مثل تناول القات من قبل بعض نساء الشمال يعد بمثابة "شقوق" تظهر على سطح هذه الاحتفالات القديمة. هنا يكمن السؤال: إلى أي مدى تغيرت المجتمعات وبدأت العلاقات تتبدل في إطار مواجهة تقاليد مضادة للتغيير؟

تشكل الأعراس في أبين مثالًا حيًا على كيفية استخدام المناسبات الاجتماعية لتمرير القيم والمبادئ عبر الأجيال. فالرقص والأهازيج ليست مجرد فرحة مؤقتة، بل هي تجسيد لحكايات الأجداد ورمز للانتماء لمجتمع متمسك بأصالته. 

   الهوية ليست مجرد رموز زائفة، بل هي نسيج من العلاقات الاجتماعية والعادات التي تُبنى منذ الصغر، وتوفر للشعوب شعورًا بالانتماء والثقة. في ظل التحديات المعاصرة، تبرز الحاجة إلى التمسك بتلك الهوية دون رفض للتطور، بل بمحاولة دمج الجديد بما يعزز الأصالة.

من هنا برزت ظاهرة ورود نساء من شمال اليمن إلى أعراس في مدن الجنوب مع ممارسات بعيدة عن العادات المتوارثة؛ إذ يأتي ذلك في إطار ظاهرة مفاجئة على المجتمع التقليدي، والتي تُجرّ بعضها تأثيرات تُظهر تراجعًا في قيمة التراث وإضاعة لتلك الروح الجماعية التي كانت من صميم الاحتفالات. هذه الظاهرة توضع أمامنا كإشارة تحذيرية: 

  التباين بين المناطق يعود بجذوره إلى عوامل اقتصادية وثقافية متباينة، حيث تلعب العولمة والتسويق الاجتماعي دورًا في استقطاب سلوكيات جديدة قد لا توافق التقاليد الراسخة. 

  في عصر المعلومات والإنترنت، أصبح من السهل نسبيًا نقل أنماط السلوك بين المجتمعات. تأتي هذه الظاهرة إذ تُضغط على قيم المجتمع بمزيج من التراث والحداثة، وتُستبدل العادات الأصيلة بعادات جديدة قد لا تُثبّت الهوية بنفس الطريقة.

  يتساءل الكثيرون عن سبب السماح بتغييرات تبدو جائرة على الهوية. فالمجتمعات التي فقدت جذورها الحقيقية تميل إلى اعتماد ممارسات تبدو بلا روح أو معنى تاريخي. هنا نجد صراعًا بين من يرون أن الحداثة تُعطي فرصة للنمو والتجدد، وبين من يحذرون من فقدان الإرث الثقافي الذي يشكل هوية المجتمع.

  القات وما يمثله من عادة غريبة في سياق هذا التراث، ليس مجرد مادة مُستهلكة؛ بل هو رمز لتغير الاتجاه الثقافي وقد يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس واضطرابات نفسية تؤثر على طريقة التفاعل الاجتماعي داخل المجتمع ذاته.

  يؤدي الانتشار الواسع للوسائط الرقمية والإعلام إلى تضخيم بعض المظاهر الثقافية التي لا تمت للهوية بصلة. إذ يتم استغلال نقاط ضعف المجتمع التي تمثلها حاجته للتجديد والاندماج لتغيير عادات تعود إلى الأجيال السابقة. 

  في ظل ثقافة العولمة والاتصال الدائم، تظهر الصعوبات في رسم حدود واضحة بين ما يُمكن أن يُقبل وما لا يُقبل في المجتمع، مما يؤدي إلى حالة من الارتباك والتأرجح بين التقليدي والحديث.

  بدلاً من فرض الحلول بقوة من جهة واحدة، يجب أن يكون هناك حوار بناء يشارك فيه كل فئات المجتمع لتعزيز قيم تراثية تتماشى مع العصر. فالحوار هو الجسر الذي يصل بين الماضي والحاضر، حيث يمكن للنقاد والاجتهاد في تقديم رؤى تبدو جريئة وغير متحيزة. 

  ليس من الضروري أن يكون هناك انفصال تام بين القديم والجديد. إنما يكمن التحدي في خلق صيغة تجمع بين الأصالة وروح العصر دون خسارة محتوى الهوية التي تعبّر عن المجتمع.

إن الخطوة الأولى نحو الفهم العميق للمشاكل الاجتماعية هي تحليل الأسباب والنتائج، ونتساءل  ما هي الدوافع وراء تغير تلك السلوكيات؟، وكيف يؤثر ذلك على العلاقات بين أفراد المجتمع؟، وهل هناك عوامل اقتصادية أو اجتماعية أدت إلى هذا التغير؟، أحيانًا نجد أن الحل ليس في المقاطعة أو العزلة، بل في محاولة فهم السياق الأوسع الذي أدّى إلى ظهور مثل هذه الظواهر.

 يمكن للمجتمع أن يبدع طرقًا تجمع بين الحفاظ على التقاليد وبين استيعاب بعض عناصر الحداثة التي قد تكون مفيدة. مثلاً، يمكن تنظيم ورش عمل وحملات توعوية تشرح أهمية احترام العادات وكيفية تحقيق التوازن بين الجديد والقديم.

  يلعب التعليم دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الاجتماعي، فمن خلال المدارس والجامعات يمكن تعزيز قيم الانتماء والهوية وتعليم الأجيال الجديدة كيفية التعامل مع التحديات الثقافية المعاصرة بأسلوب نقدي وبنّاء، ويجب أن يتدخل قادة المجتمع، سواء من الناحية الاجتماعية أو الثقافية، للقيام بحملات توعوية تبين أهمية الحفاظ على الهوية وتقديم نماذج إيجابية تُظهر أن التطور والتمسك بالتقاليد يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب، والمبادرات التي تشجع على الفخر بالتراث تُعد خطوة نحو إعادة بناء الثقة الشخصية والجماعية في آن واحد.

في خضم كل التحديات التي تواجه المجتمع، يبقى السؤال المحوري قائمًا: كيف نوفق بين تمسكنا بعاداتنا الأصيلة وبين احتضاننا للتطور الذي لا مفر منه؟ 

إن التغيير لا يعني بالضرورة فقدان الهوية، بل يمكن أن يكون وسيلة لإعادة النظر في الممارسات التقليدية وتطويرها لتناسب متطلبات العصر دون أن تفقد روحها الأصلية. ولعل الحل يكمن في الحوار المفتوح والمبادرات المشتركة التي تُعيد النظر في طرق الاحتفال والاندماج الاجتماعي، وتضع في الاعتبار أن كل تصرف يقودنا إلى مستقبل أكثر شمولية وتوازنًا.

بالطبع، لا تخلو العملية من لحظات من الفكاهة والسخرية ذاتها، التي تُعد بصمة جيل زد الذي يعرف جيدًا كيف يمزج بين الجدية والمرح ليواجه تحديات الحياة. من هنا، يمكن القول: لا بدّ لنا من إعادة صياغة القواعد دون إسقاط معاني الأصالة التي تميزنا؛ لأن التاريخ لا يضحك على من لا يستوعب جدية الماضي في حداثة حاضرنا، وتلك هي الرسالة التي يجب أن نُبْرِزها في كل مناسبة تجمعنا كأمة تفتخر بتراثها وتستقبل المستقبل بعيون يقظة تحمل روح الشك والبحث الدائم عن الأفضل.

في نهاية المطاف، تكمن قوة المجتمع في القدرة على التكيف دون التخلي عن أبجديات هويته، واستثمار كل التحديات في بناء جسر متين بين الماضي والحاضر، يجمع بين تقاليدنا العريقة وروح العصر بطريقة تجعلنا نصنع مستقبلًا لا يُضاهى في جماله وتماسكه الاجتماعي، نجد أن المشاكل الاجتماعية ليست سوى انعكاس لتحديات التعايش بين القديم والحديث. وفي مواجهة هذه التحديات، يبقى الحوار والتوعية والتوازن هما السبيل لاستعادة الهوية وإعادة البناء على أسس صلبة من القيم والتقاليد التي ترتكز على روح المجتمع الأصيل.