الاقتصاد
العودة إلى عادة الأجداد..
الغلاء يعيد المصريين إلى لف السجائر
يتعامل المصري مع سيجارته بطقوس غريبة، إذ من النادر أن تجد مُدخنا في العالم يعامل سيجارته كما يعاملها المصري، إنه يشمها قبل أن يشعلها، ويضغط على طرفها كما لو كان يشحذها، وأحيانا يرمي مصفاتها (الفِلتر) كي يدخنها كما هي دون عازل يقلل أخطارها، ومن الأندر أن تجد مهنيا أو حرفيا إلا ويُقدّر قيمة أتعابه بسعر علبة السجائر، أو موظفا لا يطلب بقشيشًا (عمولة)، قائلا لك “أين الدخان؟”.. في غير البلاد المصرية.
في ستينات القرن الماضي كان حلم الكثير من المدخنين في مصر، تجريب السجائر المصنّعة بالكامل، إذ كانت الملفوفة “يدويا” هي المناسبة لدخل الغالبية العظمى من المصريين، لكنها اضمحلت بشكل تدريجي حتى أوشكت على الاختفاء، قبل أن تعود إلى الظهور مجددا خلال الأشهر الأخيرة، مع عودة البعض إلى “لفّ” التبغ يدويا، لأهداف متباينة، إما رغبةً في تقليل الاستهلاك، وإما لمواجهة الارتفاعات المتزايدة في أسعار السجائر.
وبدأ قطاع عريض من المدخنين المصريين الشباب في الرجوع إلى عادة لف السجائر، التي كانت تمارسها أغلبية المصريين حتى بداية التسعينات من القرن العشرين، لكن بوسائل أحدَثَ، حيث باتوا يستعينون بماكينات زجاجية صغيرة للف السجائر، وخامات معظمها مستورد من الخارج لإنتاج سيجارة يدوية شبيهة بالمصنعة، رغم وجود مصانع محلية تنتج تلك الخامات، يصل عددها إلى نحو 17 مصنعا.
وتتنوع مبررات المقبلين على تلك العادة، متراوحة ما بين الرغبة في تخفيض الاستهلاك، والتحكم في جودة ونوعية التبغ المستخدم، أو حتى تقليل تكلفة التدخين بعد الارتفاعات المتتالية في أسعار السجائر، خلال السنوات الخمس الأخيرة، حتى باتت أرخص أنواع السجائر الموجودة بالسوق، تكلف المدخن نحو 20 دولارا شهريا.
وقال عدد من المدخنين، لـ”العرب”، إنهم لجأوا إلى تلك العادة لتخفيف كميات السجائر التي يستهلكونها يوميا، إذ تحتاج صناعتها يدويا وقتا أطول لا يتوفر مع ضغط العمل، كما لا يمكنهم لفّها في المواصلات العامة، في ظل خلط الكثيرين بين “لف” التبغ وصناعة حشيشة “البانغو” المخدرة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تقليص معدلات التدخين اليومية.
مصر صادقت دوليا عام 2005 على الاتفاقية الإطارية لمنظمة الصحة العالمية، بشأن مكافحة التبغ، والتي نصت على ضرورة فرض حظر كامل على التدخين في جميع الأماكن العامة، لكن المصريين مع ذلك مازالوا يواصلون التدخين داخل جميع الشركات والمصالح الحكومية والخاصة كالمعتاد، وفي وسائل النقل (باستثناء مترو الأنفاق، الذي تُفرض فيه غرامة فورية على المدخن).
وأكد علاء فرج، صاحب محل مستلزمات تدخين بالقاهرة، أن تعويم الجنيه رفع أسعار التبغ بنسبة 100 بالمئة، لكنه لا يزال رغم هذا أرخص من السجائر الأجنبية المصنعة محليا، والتي سجلت بعض أصنافها ارتفاعات متتالية؛ كـ”مارلبورو” الذي وصل سعره إلى قرابة الدولارين للعلبة الواحدة.
ويشتكي بعض المدخنين من أن السجائر المصنعة بالكامل في مصر أقل جودة من التبغ المستورد، ما دفعهم إلى صناعتها يدويا، لاختيار أنواع من التبغ أكثر جودة، خصوصا “البريطاني” الذي يتميز باحتوائه على نسب منخفضة من القطران مقارنة بالتبغ المحلي، ما يقلل الأضرار الصحية الناجمة عن التدخين، على حد قولهم.
وتحتوي السيجارة الواحدة في البعض من الأنواع المصنوعة محليا على 15 ميليغراما من القطران (وهو مزيج معقّد من المواد يمكن أن يؤدي في حال تواجده بكميات كبيرة إلى الإصابة بمرض السرطان)، كما تحتوي السجـائر على ما يزيد عن 3600 مركب متنوع لها خواص مهيجة ومسرطنة، من بينها أول أكسيـد الكربون، وأكسيد النيتـروجيـن.
وفقا للعديد من الدراسات الطبية، تتضمن السجائر منخفضة القطران تضليلا للمستهلكين، إذ توحي بأنها أقل إضرارا بالصحة، وتدفع مدخنيها إلى استنشاقها بعمق، معتقدين أن دخانها خفيف، الأمر الذي يؤدي لوصول القطران إلى أطراف الرئة، لتصاب بالسرطان.
العلبة الباهظة
أضاف فرج، أنه توجد العديد من الماكينات المصنعة للسجائر، منها “الكهربائي”، الذي لا يقل سعره عن 5 دولارات، واليدوي الذي ينطلق سعره من 1.5 دولار، مؤكدا أن جميع المستلزمات مستوردة، وأن ورق “البفرة” المحلي لا يصلح للسجائر الملفوفة بالماكينات، إذ يخلو من مادة الصمغ التي تسهل لف التبغ.
ويمكن لكيس التبغ الواحد أن يصنع 180 سيجارة، تعادل 9 علب سجائر، وبالتالي يبقى أكثر اقتصادا من شراء الأنواع الأميركية المصنوعة محليا، (التي وصل سعر العلبة منها إلى قرابة الدولارين)، بعد استبدال الحكومة المصرية ضريبة المبيعات بضريبة القيمة المضافة.
في سبتمبر الماضي أقرت وزارة المالية زيادة جديدة في أسعار السجائر المحلية والأجنبية، تصل إلى 25 سنتا، وسط توقعات بأن ترتفع الأسعار مجددا، بسبب الزيادة المستمرة في سعر صرف الدولار الأميركي أمام الجنيه المصري.
وقال أسامة سلامة، رئيس رابطة تجار السجائر بالقاهرة والجيزة، إن البعض لجأ إلى “السجائر الملفوفة يدويا” لتقليل تكلفة التدخين، لكن خططهم لم تنجح، بسبب ارتفاع أسعار التبغ المستورد بنسبة 30.7 بالمئة بعد تعويم الجنيه والارتفاع الكبير في سعر الدولار الأميركي. وأوضح أن “الأسعار القديمة للتبغ المستورد، كانت توفر لكثيفي الاستهلاك من السجائر الأجنبية المصنعة محليا نحو 50 دولارا شهريا، لكن الآن تقلص هذا المبلغ كثيرا”.
تملأ الرأس رغم مخاطرها
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن إجمالي عدد المدخنين بمصر، ارتفع في عام 2015 إلى 19.6 بالمئة من إجمالي عدد السكان، الذي يتجاوز 90 مليون نسمة، مقابل 16.6 بالمئة في عام 2013، بينما تقدر الإحصائيات الرسمية عدد من يتوفون بسبب أمراض التدخين حاليًا، بـ170 ألفا سنويًا.
لكن الملاحظ، أن الفئات التي تلجأ إلى السجائر الملفوفة -بعد التعويم- هي من الطبقات مرتفعة الدخل، التي تتمسك بتلك العادة كنوع من التغيير، أو لأنها ترى أن التبغ المستورد من الخارج أكثر جودة من المحلي، الذي تنتجه الشركة الشرقية للدخان “إيسترن كومباني”، محتكرة صناعة السجائر بمصر.
وتحتكر “الشرقية للدخان”، التي تأسست في 12 يوليو 1920 بمرسوم من السلطان أحمد فؤاد، صناعة السجائر بمصر حاليا، إذ تأسست لمحاربة الإنتاج الأجنبي للسجائر، ونجحت بعد 7 سنوات فقط من نشأتها، في الاستحواذ على جميع مصانع الأرمن واليونانيين والإنكليز بمصر.
وأشار رئيس رابطة تجار السجائر بالقاهرة والجيزة، إلى أنه لا بديل عن زراعة التبغ محليا بصعيد مصر، لتوفير العملة الصعبة، والحد من الارتفاعات غير المبررة في أسعار السجائر.
وتبحث جهات حكومية، حاليا زراعة التبغ بصعيد مصر تحت إشراف القوات المسلحة، لتوفير نحو 200 مليون دولار، تمثل قيمة التبغ الذي تستورده مصر سنويا.
لكن مصدرا بوزارة المالية أكد لـ”العرب” أن ضرائب وجمارك التبغ تمثل ثاني أكبر مصدر لإيرادات الحكومة بعد قناة السويس، وتلك المبالغ ستتقلص حال زراعته محليا، علاوة على أنه سيزيد من كثافة الاستهلاك، وبالتالي من الأمراض الناجمة عن التدخين، والتي تنفق الحكومة على علاجها نحو 177 مليون دولار سنويا.
احتكار حكومي
تستهدف الحكومة المصرية الحصول على عائد يصل إلى 42 مليار جنيه من السجائر خلال العام المالي الحالي الذي ينتهي في يوليو المقبل، لدعم الخزانة العامة للدولة، مع مساعي “الشرقية للدخان” لإنتاج وبيع 84 مليار سيجارة، منها 20.8 مليار سيجارة مصنعة أجنبيّا في الفترة ذاتها.
وتنتج الشركة، التي تتبع وزارة الاستثمار المصرية، 13 نوعا من السجائر، أشهرها “كليوباترا”، و”كليوباترا بوكس”، لكنها تمتلك في الوقت ذاته حق التصنيع المحلي لمنتجات “فيليب موريس”، وإنتاج العديد من الماركات الشهيرة كـ”مارلبورو” و”كينت”.ويرى إبراهيم إمبابي، رئيس شعبة التبغ باتحاد الصناعات المصرية، أن إقبال البعض من الشبان على “لف السجائر”، لن يؤثر على المبيعات المحلية، لا من قريب ولا من بعيد، إذ لا تتجاوز نسبتهم 1 بالمئة من إجمالي المدخنين بمصر، ومعظمهم صغار السن هدفهم جذب الانتباه باتباع عادة جديدة، على حد قوله.
عدد المدخنين في مصر ارتفع في عام 2015 إلى 19.6 بالمئة
وأضاف إمبابي، لـ”العرب”، أن تلك العادة كانت منتشرة جدا بالريف المصري لكنها اختفت، وأن مصير أسعار السجائر بعد ارتفاع الدولار مرتبط بوزارة المالية في المقام الأول، فمصلحة الضرائب هي التي تحدد الأسعار والشركات تلتزم بها.
ولطالما كان الفلاحون في مصر يحملون ما يسمى بـ”عِدّة الدخان” معهم في كل مكان، وهي عبارة عن علبة مصنوعة من النحاس أو الألومنيوم، بها تبغ مطحون وأوراق رقيقة صغيرة الحجم، تسمى “بَفرة”، وعلبة كبريت (ثقاب)، وكان البعض يخلط التبغ ببعض مخلفات النباتات، لزيادة كميتها، في ظل ارتفاع معدلات الفقر بالريف المصري في الخمسينات من القرن العشرين.
ويرجع تاريخ التبغ بمصر، إلى عهد الدولة العثمانية قبل 416 عاما، حيث كان المصريون يمضغون أوراقه، على شاكلة “القات” الآن في اليمن، إلا أن انتشار الاستهلاك دفع الوالي العثماني حينها، إلى منع تدخين التبغ بالشوارع والمحال أو حتى أمام أبواب البيوت، وهدد بإعدام من يُقدم على ذلك، لكن الأمر تغيّر كثيرا مع وصول محمد علي باشا إلى حكم مصر عام 1805، إذ انتعشت تجارة التبغ واستخدامه.
ويستبعد إمبابي إمكانية نجاح تجربة زراعة التبغ بمصر، فالمناخ لا يسمح بإنتاج أنواع جيدة منه، والتجارب التي تمت في السابق أنتجت أنواعا رديئة، لن تستطيع منافسة الأنواع المستـوردة التي تتسم بالجودة، إذ يحتاج الأمـر إلى مناخ رطب، لأن حوالي 90 بالمئة من وزن نبات التبـغ من المياه.
ولمصر تجارب سابقة في زراعة التبغ، ترجع إلى القرن الثامن عشر، فمع بداية الحملة الفرنسية شرع سكان الفيوم في زراعة التبغ بدلا من استيراده، وقد لاقى رواجا كبيرا من المصريين، ثم انتشرت زراعة التبغ في الكثير من المناطق بجنوب البلاد، وبعد الزراعة يمر التبغ بمراحل الصناعة المعتادة؛ من التجفيف والتسوية والتخمير والتعتيق ثم التدريج والخلط.
ورغم أن مآرب الشباب المصري من لف السجائر المصنعة يدويا عديدة، ما بين التوفير وترشيد الاستهلاك، إلا أنها -في نظر “الشرقية للدخان”- تمثل خطرا يهدد بضياع زبائنها، البالغ عددهم قرابة الـ10 ملايين مدخن، خصوصا في ظل خطر التهريب، الذي يكبد الدولة خسائر سنوية تتراوح بين 176.4 و300 مليون دولار.