الأدب والفن
ابدأ القراءة..
ماذا يعني أن تكون مثقفًا؟
مشهد لا بأس به يتكرر مرارًا وتكرارًا لرجل يجلس مرتديًا نظارته الطبية يقرأ الجرنال وينتظر منه الآخرون تعليقه على أحد الأخبار.
مشهد آخر حديث نوعًا ما لمجموعة من مختلف الأعمار يتناوبون الحديث والمناقشة حول كتاب ما، وذاك أيضًا برنامج حواري تقدمه مذيعة من عتاولة الإعلام مستضيفة عددًا من المفكرين والمثقفين المحنكين الذين لا يتحدثون إلا باستخدام المصطلحات الأولى١ التي انشق منها الكلام بعد حين.
وبين هذا وذاك يتساءل شخص عادي بسيط جدًا من أنا لأكون وسط هؤلاء، هو يخشى الحديث عن نفسه، ويخشى الدخول في مناقشات لكيلا يخجل عندما لا يستطيع المراوغة في الحديث كيفما يفعل غيره؛ إلا أنه لديه ما يكفي من الدراية والاطلاع، وله اهتماماته الخاصة وآراؤه الشخصية ويستطيع بكل سهولة أن يتقبل غيره، ويسأل صاحبنا هل هذا بالأمر الصعب أن أكون مثلهم؟ أن أكون مثقفًا!
أو بمعنى أدق ماذا يعني أن أكون مثقفًا؟
فكلمة مثقف في اللغة تعني (مُتَعَلِّمًا، أي مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ)، أما ما يقابها بالإنجليزية فهي كلمة Cultured وتعني أنك تفكر أو تعيش بشكل حضاري.
وبعيدًا عن المراوغة هنا أيضًا، فنحن لم نطرح السؤال فعليًا.
ألا وهو ماذا يعني أن تكون مثقفًا؟ هل لهذا علاقة بأن تكون قارئًا جيدًا؟ أو أنك تجيد الكلام عن الكتب التي لم تقرأها بعد، أو أنه لديك نزعة عامة للوجاهة الفكرية.
كان هذا هو سؤال الكاتب الروسي أنطون تشيخوف أيضًا، والذي طرحه في رسالة لأخيه الأكبر نيكولاي، والذي كان يعمل رسامًا، وكتب هذه الرسالة عندما كان أنطون في السادسة والعشرين، وكان نيكولاي في الثامنة والعشرين.
وقد نُشرت بعد ذلك في كتابه «رسائل إلى العائلة»، وفيها يكتب تشيخوف ويقدم جرعة دسمة من الحب الحقيقي، ويحدد ثماني صفات لمن يطلق عليهم لقب مثقف، كالأمانة والصدق والإيثار والعادات الحسنة.
موسكو، ۱۸۸٦
(إلى نيكولاي)
أنت دائم الشكوى من أن الناس «لا يفهمونك»، ولم يشك جوته ونيوتن من ذلك. فقط المسيح اشتكى منه، لكنه كان يتحدث عن العقيدة التي جاء بها، وليس عن نفسه. إن الناس يفهمونك جيدًا. وإذا لم تفهم نفسك، فليس ذلك خطأهم. أؤكّد لك – كأخ وصديق- أنني أفهمك وأتفهم مشاعرك. أعرف خصالك الحميدة مثلما أعرف أصابعي الخمسة، إنني أقدِرها وأحترمها للغاية. وإذا أردت إثباتًا لزعمي هذا، فبوسعي أن أعدّها لك. أظن أنك عطوف لدرجة اللين، شهم، إيثاري، ومستعد لمقاسمة آخر مليم معك، ولست حسودًا أو حقودًا، طيب القلب، تعطف على البشر والحيوانات، جدير بالثقة، لا تحمل ضغينة أو تنافق، ولا تتذكر الإساءة، ولديك هبة من السماء قلما يحظى بها الآخرون، لديك الموهبة.
وتضع الموهبة في منزلة فوق ملايين البشر، لأنه على ظهر الأرض – فقط – هناك فنان بين كل مليوني شخص. تضع موهبتك في منزلة خاصة، حتى لو كنت ضفدعًا أو عنكبوتًا سيحترمك الناس، لأن الموهبة تغفر أي شيء. لديك إخفاق واحد، ويعود إليه زيف وضعك، وتعاستك واضطراب أمعائك. ويتمثل هذا الإخفاق في افتقارك التام للثقافة. سامحني، من فضلك، لكن – كما تعرف – للحياة شروطها. فمن أجل أن تعيش مرتاحًا بين المتعلمين، ولتتمكَّن من معايشتهم بسعادة، يجب أن تحوز قدرًا محددًا من الثقافة.
إن الموهبة لتدخلك في مثل تلك الدائرة، فأنت تنتمي إليها، لكن، يتم سحبك بعيدًا عنها، لتتأرجح بين المثقَّفين والمستأجرين. وحسب رؤيتي، يجب أن يستوفي المثقَّفون الشروط التالية:
احترام الجانب الإنساني في الشخصية، ولهذا السبب هم دائمًا ودودون، دمثون، مهذَّبون، ومستعدّون للعطاء. إنهم لا يتشاجرون بسبب مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي، وإذاعاشوا مع أحد، لا يعدّون ذلك منحة منهم، ويرحلون دون أن يقولوا «ليس بوسع أحد أن يعيش معك». إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم المقدَّد والنكات ووجود غرباء في منزلهم. يتعاطفون، ليس فقط مع المتسوِّلين والقطط. وتنفطر قلوبهم لما يرونه أو لا يرونه. إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما، ولدفع نفقات الإخوة في الجامعة، ولشراء الملابس لأمهاتهم. إنهم يحترمون ممتلكات الآخرين، ولهذا يسدِّدون ما عليهم من ديون. إنهم مخلصون، ويخشون الكذب كما تُخشى النار. إنهم لا يكذبون، حتى ولو في الأشياء الصغيرة. فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدنى بالنسبة للمتحدّث. لا يتظاهرون، بل لا يتغيَّر سلوكهم في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمّدون الاستعراض أمام رفاقهم الأقل منهم منزلة. لا يثرثرون، ولا يثقلون على الآخرين بثقتهم بأنفسهم. واحترامًا منهم للآخرين، فإنهم يميلون إلى الصمت أكثر من الكلام. لا يحطّون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة الآخرين. ولا يلعبون على شِغاف قلوب الآخرين، ليجعلوهم يتنهّدون ويستحوذون عليهم. ولا يقولون «يُساء فِهمي» أو «لقد أصبحت شخصًا من الدرجة الثانية»، لأن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف. هم لا يعانون من الخيلاء والغرور. ولا يحفلون بتلك الماسات الزائفة (أقصد المشهورين(، ولا يأنفون من مصافحة السِكّير، وينصتون إلى صيحات إعجاب مُشاهد مشتت في معرض للصور الفوتوغرافية، ويتردّدون كثيرًا على الحانات. وإذا أبرموا صفقة متواضعة، فإنهم لا يتباهون كما لو كانوا عقدوا صفقة بمئة روبيل، ولا يعطون لأنفسهم أولوية على الآخرين. إن الموهوب الحقيقي دائمًا ما يحافظ -دومًا – على اندماجه بين الجموع، وبعيدًا قدر المستطاع عن الإعلان. وحتى كرايلوف، قال – سابقًا – إن البرميل الفارغ يَصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل الممتلئ. إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها. ويضحّون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخيلاء. إنهم فخورون بموهبتهم، وبالإضافة إلى ذلك، من الصعب إرضاؤهم. يُنمّون الحس الجمالي داخلهم. ولا يستطيعون الذهاب للنوم بملابسهم، ولا يتحمّلون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات، أو تنفّس هواء فاسد، أو السير على أرض عليها بُصاق، أو أن يطهوا وجباتهم على موقد زيتي.
ويسعون قدر استطاعتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسموّ بها. وليس كل ما يرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش، ولا يطلبون المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية. إنهم يرغبون، -خاصة الفنانين منهم – بالطزاجة، والأناقة، والإنسانية، والاحتواء الأمومي. إنهم لا يشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل، ولا يتشمّمون رفوف الخزانات، لأنهم ليسوا خنازيرَ، ويعلمون أنهم ليسوا كذلك. ويتناولون الشراب -فقط- عندما يكونون غير مرتبطين بعمل أو في عطلة. وهذا بعض ما يجب أن يكون عليه المثقّفون. فلكي تكون مثقَّفًا، ولا تكون في مرتبة أدنى من المحيطين بك، لا يكفي أن تقرأ (أوراق بيكويك)، وتحفظ منولوجًا من )فاوست). ما يحتاجه المثقّف هو العمل الدائم ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة؛ فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له.
تعال إلينا، وحطِم زجاجة الفودكا، وتمدَّد، وابدأ القراءة. اقرأ أعمال (تورجنيف) إذا أردت، التي لم يسبق لك أن قرأتها. يجب أن تتخلّى عن تفاهتك، فأنت لست طفلًا، فعما قريب ستبلغ الثلاثين. لقد حان الوقت!
أنتظرك… نحن جميعًا ننتظرك.