الأدب والفن
قصة قصيرة..
عندما يبكي الرجال
نشأ "راكان " يتيماً وفد حرم من أبيه في سن مبكرة من حياته عندما كان في الرابعة من عمره وكانت حياته مليئة مترعة بالجراحات واليتم والألم وما زال يتذكر طيف أبيه وهو يمر أمامه كشريط سينمائي باهت باللونين الأبيض و الأسود تماماً مثل طفولته أغلب أيامها كانت حالكة السواد ..يكسوها الحزن و الألم عاش في كنف خاله وأمه وحيداً..و كانت تمثل كل دنياه و عشه الهادئ والحضن الدافئ الذي يأوي إليه ..
وعندما يضربه بعض الأولاد الأشقياء الأكبر منه سنا كان القهر يكتسي ملامحه وبعد أن يصارعهم تتسخ ملابسه من التراب و تتقطع أطرافها ورغم عدوانية واستقواء البعض منهم عليه كان متسامحا ولا ينقطع عن اللعب معهم في الشعاب والغدران وعندما يتسلقون الأشجار والصخور وعندما أشتد عوده وشب كان يغلب الجميع ولم يجرؤ أحد من أترابه أن يتحداه !!
عاش "راكان" في بيئة جبلية مرتفعة عن سطح البحر في قرية من قرى عسير تناطح قممها السحاب ..و يمر الضباب تحت نوافذها .. وطقسها بارد شتاءً و معتدل صيفاً وأحب " راكان" بيئته الجميلة عندما كان يتنقل مع رفاق الصبا بين الغدران و الشلالات أو اللعب تحت المطر ..و يتسابق معهم في جمع حبات البرد أيام الصيف ..
أو يحاول مع رفاقه عبور السيل في بعض الشعاب الصغيرة .. ليستعرضوا أمام فتيات القرية براعتهم وقوتهم .. وكانوا يشبكون أيديهم معاً عندما يخوضون في الماء وعينه ترقبها وحدها وهي تراه الأكثر جرأة في مجموعة الصبية بعد أن شب عن الطوق و أصبح يافعاً يخطو إلى الشباب و القوة ..
كانت "فاطمة " ابنة جيرانه معجبة به خاصة عندما أصبح وسيماً و شعره كثيفاً وأخذت معالم الرجولة و الشباب تشكل ملامحه .
كان الحاج " منصور " خال راكان هو الذي كفله بعد موت أبيه وحاول أن يعوضه عن فقده ولكن هيهات فالأب كما قال منصور لا يحل مكانه أحد ..
كان خاله منصور يعول أسرة كبيرة من النساء و الأطفال ..أمه و زوجته و أخواته و أولاده الذين يزيد عددهم عن عشرة مع ضيق ذات اليد ولكنه لم يبخل على راكان وأمه بما يقدر ..
ولعل من أهم الأشياء التي كان منصور يحضرها لراكان و أمه في رمضان والعيد من غذاء و كساء وقد ارتبط شهر رمضان وارتسم في ذاكرة راكان حتى أصبح من أحب شهور السنة عنده .. ففيه فرحة الإفطار كل ليلة وليالي السحر الجميلة التي يقضيها مع رفاقه وهم يطلقون الألعاب النارية الملونة ويتجهون إلى مسجد القرية لأداء صلوات المغرب و العشاء و التراويح ..
وكان مع غيره من الصبية يقفون في الصفوف الخلفية عند الصلاة ..عندما يقوم " عبدالله" أكبرهم سناً و أشقاهم .. وهو الابن المدلل الوحيد لأحد التجار القرية وما ان تبد! الصلاة حتى يعبث بالصفوف التي يتراصون فيها ..ويضغط عليهم بجسمه الثقيل يميناً ويساراً حتى يتساقطون أحياناً .. في حين يتسلل "أبو ناصر" وهو رجل كبير السن من خلف الصفوف ويقوم بردع أولئك الصبية ويضربهم بعصا صغيرة من الخيزران ناهراً إياهم متوعداً أن لا يعبثوا ولا يلعبوا أثناء الصلاة ..وكان الصبية يخشونه ويخافون من لسعات عصاه على ظهورهم .. عندما يسمعون فرقعة عصاه على جلود بعضهم سرعان ما ينتظمون ويتظاهرون بالخشوع ..!!
ذكريات كثيرة تتزاحم في رأس "راكان" وعندما كبر وشق طريقه في الدراسة بنجاح كانت "فاطمة" أبنة جيرانه قد كبرت هي الأخرى حيث كانا يدرسان في المرحلة الإعدادية .. وكانا يلتقيان في حديقة الورد تحت سفح أحد الجبال في أطراف القرية خلسة بعيداً عن أعين الرقباء ..!!
"فاطمة "شابة رشيقة القوام , بيضاء البشرة , شعرها الأسود الطويل ينسدل حتى يصل إلى خصرها .. وجهها يشع نوراً و جمالاً .. وتعلقا ببعضهما و أحبا بصدق وإخلاص .. وعندما يلتقيان كانا يتناغيان كعصفورين صغيرين .. يحلمان ببناء عش جميل يجمعهما ذات يوم .
وفي العشرين من رمضان ودع راكان فاطمة حيث توجه مع خاله و أمه وعائلة خاله إلى مكة لأداء العمرة .. وكان وداعهما حاراً و مؤثراً حيث أنهما لن يلتقيا إلا بعد العيد الصغير حيث سيقضي أواخر شهر رمضان بين مكة و المدينة وجدة مع خاله وأسرته كعادتهم كل عام .
وعندما عاد راكان بعد العيد فوجئ بأن فاطمة و أسرتها انتقلوا جميعاً إلى الرياض إثر خلافات عائلية كبرى مع أقاربهم مما اضطرت الأسرة كاملة إلى الرحيل عن المنطقة وعندما سأل عنهم لم يستدل على عنوانهم أو مكان إقامتهم في الرياض ..
سكنت "فاطمة" ذاكرة راكان و استوطنتها .. وظل خيالها يعيش معه و يلازمه ليلاً ونهاراً .. وقد انكسر قلبه لفراقها و عانى معاناة شديدة خاصة أنه لم يستطع أن يراها أو يودعها ..
ولكن كما يقول المثل العربي " رب ضارة نافعة " لقد ختم راكان قلبه بالشمع الأحمر و أغلقه على طيف و ذكريات فاطمة فهي الوحيدة التي عزفت على شرايين قلبه و أوتاره فعاهد نفسه على أمرين , الأول: أن ينجح في دراسته حتى يحصل على أعلى الشهادات , و الأمر الثاني : أن يبحث عن فاطمة حتى يلقاها ..
ولكن جهوده باءت بالفشل فكانت كإبرة سقطت في كومة كبيرة من القش..
أنهى راكان دراسته الثانوية و الجامعية و تخصص في الطب " قسم الجراحة "
ثم حصل على بعثة دراسية إلى أمريكا .. وبعد مشوار و معاناة حصل على أعلى الشهادات و تم تعيينه كبير الجراحين في أكبر مستشفى بالرياض و قد حاول خاله و أمه أن يقنعاه بالزواج ولكنه رفض .. وحاولا معرفة السبب ولكن دون جدوى ..
وذات ليلة من ليالي رمضان الجميلة التي لها ذكريات مع راكان وبعد منتصف الليل جاءته مكالمة عاجلة من المستشفى للتوجه فوراً لوصول حالة حرجة ..
ارتدى ملابسه و قاد سيارته بسرعة وعند وصوله مدخل المستشفى كان الباب مزدحم بسيارات الإسعاف و الأضواء الحمراء و الصراخ و الفوضى يعمان المكان
و عربات الطوارئ تنقل العديد من المصابين الذين يضرج الدم ملابسهم و أجسادهم .. وتوجه فوراً إلى غرفة العمليات ولم يكن وحده بل كان قد سبقه بعض الجراحين وقد وصلته حالتان الأولى لرجل مسن والأخرى لامرأة وكانت حالة الرجل أقل خطورة فأحالها إلى أحد زملائه, و قام بمعاينة المرأة التي كان الدم يغطي وجهها حتى لم تعد ملامحها تظهر من نزيف الدم وتحت الأضواء تفرس في وجهها ..وكانت لحظة عصيبة في حياته تذكرها إنها هي فاطمة فتاة أحلامه وكانت تنظر إليه وعرفته وشدت على يده , و امتلأت عيناها بالدموع .. بل أخذت تبكي .. وهو يبكي بينما طبيب التخدير حضر على عجل ثم حقنها وبدأ راكان بإجراء عملية طويلة ومعقدة استمرت أربع ساعات كاملة جراء إصابتها هي و أسرتها في حادث سير وهم متوجهون من الرياض إلى مكة المكرمة !!!
كانت إصابات الأسرة قد تعددت بين كسور و خدوش و تهتكات بين المتوسطة والخفيفة .. أما فاطمة هي الوحيدة التي كانت إصابتها في الرأس وقد أصيبت بنزيف داخلي في الرأس .. اختلطت دموع راكان مع العرق الذي يتفصد من جبهته .. كان يقود فريقاً كاملاً من الجراحين و الممرضات لإنقاذها ..
وبعد أن أنهى العملية نقلت "فاطمة" إلى غرفة العناية المركزة و ذهب معها وحاول التحامل بجسده المتعب أن يظل بجوارها على الكرسي ليتابع حالتها .. ظلت فاطمة في غيبوبة و أخذ يكلم نفسه ستشفى بإذن الله و سأعرف عنوانها ولن أتركها هذه المرة أبداً ..
هذه هي "فاطمة" فتاة أحلامي وحبي الذي يسري في جسدي , استقرت حالة فاطمة و أخذ ينظر إلى الأجهزة المشبوكة في جسدها و الإضاءات الخضراء و الحمراء التي تومض من تلك الأجهزة , ويدعو ربه أن ينقذها وظل ساهرا بجوارها ..
ومع أذان الفجر ذهب ليصلي و يدعو ربه بشفائها .. ومن أن عاد إلى العناية المركزة حتى وجد المكان قد ازدحم بالممرضات و الأطباء و أخترق الزحام وشاهد الإشارات الضوئية كلها قد أطفئت , ووجه فاطمة يشع نوراً وقد انتقلت إلى رحاب الله .. وعندها أطلق صرخة مدوية وسقط مغشياً عليه ..
د . علوي عمر بن فريد