قضايا وحريات

التجربة المعيشية والعلم الموضوعي..

العولمة والأزمة المعرفية: لماذا لم يعد المستقبل الذي نطمح إليه ممكناً؟

"من الخيال إلى الواقع: لاتور يحذر من حدود العولمة ومستقبل البشرية"

واشنطن

قبل انتخابات دونالد ترامب الأولى في عام 2016، كتب كورت كوب مقالاً حذر فيه من ظاهرة شعبية ترامب، مسلطًا الضوء على جذور هذا الاهتمام الجماهيري، في ضوء أفكار الفيلسوف الفرنسي الراحل برونو لاتور. استند كوب في مقاله إلى محاضرة للاتور حول فرضية غايا، والتي فسر فيها قدرة ترامب على كسب جماهير واسعة عبر منح صوت للغضب والخوف المتناميين بسبب العولمة. ورغم مرور السنوات، لا يزال تحليل كوب للكثير من تلك الظواهر قائماً، ليكشف عن أبعاد مستمرة ومؤثرة في المشهد السياسي الحالي.

ولاحظ الفيلسوف الفرنسي أن الغضب والخوف كانا منتشرين بالفعل، وتجليا في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفي العديد من الحركات اليمينية في الدول الأوروبية التي أصبحت الآن مألوفة بعد ثماني سنوات. يقول كوب إن العولمة هي أيديولوجيا وليست الحقيقة "الحتمية" التي يعتقدها الكثير منا، وأن لاتور نفسه أشار إلى استحالة هذا المعتقد. وفي المقال الذي نشر في العام 2016، قدم كوب تعريفا للعولمة.

وقال "مع اكتشاف الوقود الأحفوري ثم استغلاله باستمرار وعلى نطاق متزايد، واجهت المجتمعات في كل مكان مشكلة اكتشاف كيفية حكم عالم به فائض متزايد من الطاقة. ومكّنت هذه الفوائض الكثير من الأشياء الجديدة وأدت بذلك إلى تغيير اجتماعي وتكنولوجي سريع".

يضيف الكاتب في مقاله "جربنا الرأسمالية والشيوعية والفاشية والاشتراكية والديمقراطية وأخيرا العولمة التي سأعرّفها بالنشاط الاقتصادي والنمو في جميع أنحاء العالم تحت إدارة الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات التي لا تحمل ولاء لأي بلد أو شعب. وتصورنا أن هذا الترتيب كان الأكثر عقلانية وكفاءة. ويُعتقد لذلك أن الصفقات التجارية التي تسقط الحواجز أمام التجارة الدولية وحركة رأس المال والتكنولوجيا عبر الحدود هي التي تشجع النمو الاقتصادي العالمي. ومن المفترض أن يرفع هذا النمو في النهاية فقراء العالم إلى الطبقة المتوسطة ويمكّن من إثراء الجميع في الأثناء".

وشرح لاتور الفخ الثنائي الذي وضعه المجتمع العالمي لنفسه، نرى فيه أن باستطاعتنا التوجه نحو مستقبل من النمو الاقتصادي العالمي والتكامل أو يمكننا العودة إلى ماض من الأخلاقيات العتيقة والركود التكنولوجي. يمضي كوب قائلا "لكننا نعلم بالفعل أن تغير المناخ واستنزاف الموارد والتلوث السام والانقراضات ستمنعنا من الوصول إلى نقطة النهاية التي تشير إليها العولمة".

 العولمة تعاني اضطرابا معرفيا مربكا وكانت التجربة في الماضي تعتبر حقيقة إلى حد كبير أما في عالم العولمة الحداثي، فإن العلم "الموضوعي" يخفف تجربتنا الحية

وكما قال لاتور، لن يتناسب العالم الذي يتوسع في خيالنا باستمرار مع طبقة الحياة الرقيقة التي نعيش فيها والتي تسمى المحيط الحيوي. بعبارات أخرى، لا يمكن توسيع نطاق العولمة إلى الأبد، حيث تجاوز بالفعل حدود المحيط الحيوي. وتعني مواصلة رحلتنا انتحارا بيئيا. يرى كوب أن "ما نحتاجه هو وجهة أخرى لا تضعنا في ماض غير قابل للاسترداد ولا تجبرنا على مستقبل يستحيل البقاء فيه على قيد الحياة. ويبقينا هذا الفخ الثنائي محبوسين دون إجابات مقنعة".

وذكر لاتور أننا مثل أشخاص على متن طائرة اختفت وجهتها ولم تعد مدينتها الأصلية موجودة. ويجب أن ندرك أولا أن هذا هو مأزقنا، ثم نجد مكانا للهبوط. ولكننا الآن "فقراء في اختراع المستقبل" وسيفيدنا جميعا أن ننطلق في بحثنا عن الوجهة الثالثة.

وتطرق لاتور إلى قلق الذين لا يزدهرون في ظل الحركة المستمرة نحو العولمة، فهم يبحثون عن الحماية في شكل عمل يدعمهم ويعيل أسرهم، وفي مجتمع مستقر، وفي هوية مستقرة (والد أو زوج أو معيل) ترسخهم في مجتمعهم. لكن العولمة جرّدتهم من حمايتهم بإرسال الوظائف إلى خارج الحدود، وإلحاق الضرر بمجتمعاتهم الصغيرة والريفية بسلبهم الأشخاص والمؤسسات الرئيسية (المدارس والمستشفيات المغلقة).

ويمكن أن يكون فقدان الهوية (تحت ضغط فقدان الوظائف، والتقشف بمنح أجور أقل، وبث مفاهيم جديدة لأدوار الجنسين) مؤلما ومهينا ومربكا ومرهقا للرجال وحتى لبعض النساء. ويجب أن تلبي الوجهة الثالثة التي نبحث عنها هذه الاحتياجات حتى ترضي الساخطين.

تعاني العولمة اضطرابا معرفيا مربكا. وكانت التجربة الحية في الماضي تعتبر حقيقة إلى حد كبير. أما في عالم العولمة الحداثي، فإن العلم “الموضوعي” يخفف تجربتنا الحية مع تحديده الحقيقة. باختصار، يقول كوب “إذا تعارضت تجربتنا الحية مع أيديولوجية العولمة (يخلطها الكثيرون مع الواقع الموضوعي)، فسيقال لنا إننا جاهلون ومتخلفون وغير علميين، ويُطلب منا اللحاق بالبرنامج الحداثي (حتى لو رأينا في هذا البرنامج تحريفا لقيمنا).”

ويجب أن تسدّ الوجهة الثالثة الصدع بين مفاهيم الواقع والتجربة المعيشية. ولا يقدم لاتور وصفا لهذه الوجهة الثالثة، بل يدعونا إلى التفكير فيها وإنشائها. ولا يعتقد أن رد الفعل العنيف ضد العولمة هو ما يخلق الوجهة البديلة. ولكن لا يجب أن نتجاهل رد الفعل العنيف باعتباره مجرد رغبة في العودة إلى الماضي.

ورد الفعل العنيف هو في الواقع اعتراف أولي بأن العولمة (بصفتها وجهة) لم تعد مرغوبة أو ممكنة. ويتبع ذلك النضال السياسي في عصرنا. ولن تنتفع البشرية بالرد على هذا الصراع بإعادة التأكيد على وجهة مستحيلة.

الحوثيون يصعّدون هجماتهم البحرية بدعم محور المقاومة.. تقرير أممي يحذّر


ترشيحات ترامب: رؤى جديدة في ملفات الهجرة والاقتصاد والسياسة الخارجية


أذربيجان تستضيف مؤتمر كوب 29 بمشاركة دولية كبيرة وأجواء تحذيرية


هيرفيه رينارد يعود إلى الصقور الخضر في تحدي التأهل إلى كأس العالم