تطورات اقليمية

الدوحة تبحث عن توازن جديد بين الحماية والتحكم..

الضربة الإسرائيلية على قطر: اختبار قاسٍ للتحالفات الأمنية التقليدية في الخليج

مبنى متضرر، في أعقاب هجوم إسرائيلي على قادة حماس، وفقاً لمسؤول إسرائيلي، في الدوحة، 9 سبتمبر/أيلول 2025.

الدوحة

أصبحت قطر، الدولة الصغيرة في شرق شبه الجزيرة العربية، بؤرة توتّر أمني جديد بعد تعرضها لضربتين متتاليتين؛ الأولى كانت صاروخية إيرانية على قاعدة العديد الجوية (قاعدة القيادة المركزية الأميركية) في يونيو 2025، والثانية غارة جوية إسرائيلية استهدفت مكتب حماس في الدوحة في 9 سبتمبر 2025. هذان الهجومان بيّنا محدودية ما يسمى “بالمظلة” الأمنية الأميركية التي تعتمد عليها الدوحة منذ عقود. فقد ظلّت قاعدة العديد تستضيف قيادة القوات المركزية الأميركية لأكثر من عشرين عاماً، وسمحت للدوحة بالحصول على صفة الحليف العسكري الأكبر خارج الناتو عام 2022، ومع ذلك لم تمنع أي من الهجومين.

ردّت دول الخليج والعالم الإسلامي بإدانة قاطعة. ففي القمة الطارئة التي عقدها زعماء جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في الدوحة في منتصف سبتمبر 2025، أدان أمير قطر تميم بن حمد العمليات الإسرائيلية ووصفها بالعدوان، محذّراً من استهداف الدول الخليجية. وقد تساءل بعض المحللين آنذاك عمّا إذا كانت الدوحة ستسعى إلى تنويع تحالفاتها الأمنية بعيدا عن واشنطن بعد هذه الضربات.

تعتمد دول الخليج منذ عقود على الأمن الأميركي في مواجهة التهديدات الإقليمية، إلا أن سلسلة قرارات أميركية في القرن الحادي والعشرين أضعفت ثقة بعض هذه الدول بواشنطن. فحكومة الرئيس الأميركي آنذاك (2025) اتبعت مواقف خلافيّة إبان «الربيع العربي» ووقّعت اتفاقات نووية مع إيران، وأظهرت محدودية ردها على هجمات إقليمية كالهجوم على منشآت «أرامكو» (2019) وعمليات الحوثيين (2022)، مما زاد الشكوك حول التزامها بحماية حلفائها في الخليج. وبعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، بات واضحاً لدى الدوحة وجيرانها أن الحماية الأميركية لم تمنع مثل هذا الضرب الاستثنائي على دولة خليجية. وقالت مصادر أميركية وإسرائيلية إن رئيس الوزراء الإسرائيلي أخطر الإدارة الأميركية بالعملية مسبقاً، لكن البيت الأبيض الأميركي كان ينكر ذلك. بغض النظر عن التفاصيل، فإن الحقيقة الراسخة وفق المحلّلين هي: أي مظلّة أميركيّة لم تحمِ قطر من الضربة. ولذلك تتساءل الدوحة اليوم عن جدوى التحالف مع واشنطن وما تعنيه صفتها كـ«حليف رئيسي غير عضو في الناتو» عمليا إن سمح الأميركيون باستهداف أراضيها.

لمواجهة القلق المتصاعد، ردّت إدارة الرئيس الأميركي (2025) سريعًا. في أواخر سبتمبر 2025 أصدرت أمراً تنفيذياً أعلن فيه «ضمان أمن قطر»، ووعد باتخاذ إجراءات عسكرية انتقامية في حال تعرضت لأي هجوم مستقبلي. وفي الاجتماع نفسه بعد الاعتذار الإسرائيلي لقطر عن مقتل مواطن قطري ووقوع إصابات، أكّد الرئيس ترامب مجددا أن الولايات المتحدة وقطر «مربوطتان بعلاقات وثيقة بين قواتهما المسلحة». كما زار وزير الخارجية الأميركي قطر في 16 سبتمبر 2025 وأكد الشراكة الأمنية الراسخة بين البلدين. هذه المبادرات الأميركية تؤكد تعهّد واشنطن بمواصلة دعم أمن الدوحة، بيد أن الدوحة تعي أن الاعتماد التام على سياسة أميركية قد يتعرض لضبابية التقلبات السياسية. فالرئيس الأميركي في 2025 كان معروفاً بميله إلى التغييرات المفاجئة في سياساته الخارجية، وهو ما يعزز قلق الدوحة من احتمالات التقلب في مواقف واشنطن.

بدلاً من قطع العلاقات مع واشنطن، تبدو قطر عازمة على تعميق تحالفاتها التقليدية مع الحلفاء الغربيين والأعضاء في حلف الناتو. من المتوقع أن تبحث الدوحة عن تعزيز شراكاتها الدفاعية مع المملكة المتحدة وفرنسا، إذ تجمعها مع البلدين صفقات سابقة في مجال المقاتلات والسلاح. ففي خضم المقاطعة الخليجية 2017–2021 وقّعت الدوحة صفقات لاستيراد مقاتلات تايفون من بريطانيا ورافال من فرنسا، لا تزال موضوعات مرتبطة بأمنها، خصوصاً في ظل التهديدات الإسرائيلية. وستركز الدوحة، وفق المحللين، على تقوية هذه التحالفات القائمة بدلاً من إبرام شراكات جديدة كلياً.

لقد حفّز حصار 2017 قطر على بناء حلفاء متنوّعين. ففي 2015 أبرمت الدوحة اتفاقية دفاع مع تركيا لتعزيز التعاون العسكري، وتلا ذلك إنشاء قاعدة عسكرية مشتركة قطرية-تركية عام 2016. وعند اندلاع الأزمة الخليجية الثانية في 2017، استُغلت تلك الاتفاقية لنشر قوات تركية سريعة في قطر. وقد أتاح هذا الانتشار توسيع نفوذ أنقرة في الخليج كضامن ثانوي لأمن الدوحة إلى جانب الحضور الأميركي. غير أن الكثيرين في الدوحة يعتبرون الوجود العسكري التركي بمثابة رادع محدود فيما لو قررت إسرائيل استهداف قطر؛ فإسرائيل، كما لاحظت صحف عبرية، تنظر بريبة إلى توسيع نفوذ أنقرة نظراً لعلاقات الأخيرة الوثيقة بحركة حماس. ومع ذلك حافظت الدوحة على التواصل مع أنقرة: إذ زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدوحة أخيراً، وترأَّس اجتماع اللجنة الاستراتيجية العليا التركية-القطرية الحادي عشر، حيث وقّع الطرفان مذكرة تفاهم للتعاون في الصناعات الدفاعية.

الشراكة مع باكستان والصين: رغم صفقات الرياض الأخيرة مع إسلام آباد وبكين، لا يتوقع مراقبون أن تكرر قطر مثل هذا التوجه. فالخبراء يشيرون إلى أن باكستان – رغم ترسانتها النووية – تفتقر إلى العلاقات التاريخية العميقة مع الدوحة التي تتمتع بها مع السعودية. علاوة على ذلك، فإن عقد اتفاق دفاع مشترك مع باكستان سيستوجب، على الأرجح، اطلاع الأخيرة على معلومات حساسة حول أنظمة الأسلحة الأميركية والغربية التي تمتلكها قطر، مما يزيد من تعقيد الأمر. ورغم وجود تعاون ثنائي قطري-باكستاني في التدريب والمناورات والصناعات الدفاعية، فإن تحويل هذا التعاون إلى ضمان أمني كبير سيبقى رهين الاتفاقيات المستقبلية والاعتبارات السياسية المتبادلة.

العلاقات مع الصين: الصين هي الشريك التجاري الأكبر لقطر، لكن أي تحوّل ملموس لتعاون عسكري دفاعي معها قد يزعزع علاقة الثقة مع واشنطن. تذكّر واشنطن الدوحة بأن خطوات صغيرة لتعميق التعاون الدفاعي مع بكين قد تُمهّد، على المدى البعيد، لإنشاء قواعد عسكرية صينية في شبه الجزيرة العربية. وهذا السيناريو يُنظر إليه على أنه بعيد الأمد لكنه مثار قلق، وهو ما يجعل قطر حذرة من إعطاء الأولوية لأي تقارب أمني مع الصين.

التعاون الداخلي الخليجي: حرصت قطر أيضاً على تعزيز الشراكة مع جيرانها الخليجيين، ضمن إطار مجلس التعاون، لتبادل المعلومات الأمنية وتنسيق الدفاع الجوي والبحري. ويشير محللون إلى أنها ستستفيد من الأمر التنفيذي الأميركي الأخير بالتأكيد على الأمن القطري لتوثيق التعاون الدفاعي المشترك مع الدول الخليجية، وهذا قد يشمل المناورات والجيوش المشتركة وحتى حصص في منظومات دفاع صاروخية.

تعتمد قطر في سياساتها الخارجية على القوة الناعمة ودورها كوسيط في عدة ملفات إقليمية. فقد أثبتت الدوحة قدرتها على أن تكون حلقة وصل رئيسية بين واشنطن والفصائل أو الدول الأخرى. فمشاركـتها في التوسط لوقف إطلاق النار في غزة وتجديده جعلها شريكاً لا غنى عنه في حل النزاعات الفلسطينية. وأيضاً قامت الدوحة بدور وساطة سري بين الولايات المتحدة وفنزويلا، الدولة التي ضمنتها إدارة ترامب في أولويات أمنها القومي. وترى قطر أن هذه الوساطات تعزز من مكانتها الاستراتيجية لدى واشنطن وتضعها في ما يسمى “الحديقة الخلفية” الأميركية حيث المخاطرة أقلُّ والخُصُول على مكاسب سياسية مع الحليف الأساسي أكبر.

وفي الوقت ذاته، تتواصل الدوحة دبلوماسياً مع إيران للتخفيف من التهديدات المستقبلية. فقد التقى وزير خارجية إيران عباس عراقجي كبار المسؤولين القطريين في الدوحة قبل أيام من الغارة الإسرائيلية، وأكد الجانبان على تقوية العلاقات الثنائية بعد “سوء تفاهم” صيفي. وعاد عراقجي إلى الدوحة بعد الضربة الإسرائيلية للمشاركة في القمة العربية والإسلامية التي استضافتها قطر، مما جسد دعما إيرانيا لتماسك قطر في وجه التصعيد الإسرائيلي.

من موقعها كدولة صغيرة بين قوى إقليمية كبرى، تعوِّل قطر على مدى نفوذها الدبلوماسي لتحقيق الأمان. وقد عبّر البيت الأبيض مؤخرا عن تقديره لدور قطر الوسيط؛ إذ التقى الرئيس ترامب بقادة قطريين على متن الطائرة الرئاسية المتجهة إلى ماليزيا، وهو مؤشر على قيمة دور الدوحة في استقرار المنطقة. وبما أن إدارة ترامب تسعى في ذلك الوقت لدفع وقف إطلاق النار في غزة نحو مرحلته الثانية، باتت تعتمد على قطر للحصول على دعم سياسي ودبلوماسي حاسم. لكن في المقابل، تُقرّ قطر – مثل باقي الحلفاء – بتقلب السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب، الأمر الذي يدفعها إلى القلق بشأن اعتماده الطويل الأمد على الضمانات الأميركية في ظل احتمالات التقلب المفاجئ في مواقف واشنطن.

في ضوء الهجومات المتتالية، تبدو قطر مصمّمة على الحفاظ على روابطها الأمنية التقليدية مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، فيما تحاول توسيع أدوارها الدبلوماسية وتعزيز شراكاتها الدفاعية القائمة مع لندن وباريس وأنقرة. وفي الوقت نفسه، تميل الدوحة إلى الابتعاد عن الخيارات الجديدة المعادية لواشنطن، مثل توثيق الروابط العسكرية مع بكين أو اسلام آباد. فحتى لو وسّعت علاقاتها الدفاعية، فإن الأولوية ستكون لتجنب استفزاز واشنطن. وعلى الرغم من الشكوك بشأن متانة الضمانات الأميركية، قد تجد الدوحة أن البديل الأكثر واقعية حالياً هو مواصلة الرهان على الشراكة مع واشنطن، مع تعزيز التنسيق الخليجي والاستفادة من نفوذها الدبلوماسي في الملفات الإقليمية، لتأمين موطئ قدم أكبر يضمن لها الحماية والتأثير في آن واحد.

تفكيك تسريب عبدالله الشريف: كيف تعمل ماكينة الإخوان الإعلامية لإشعال الفوضى؟


عاجل – انطلاق مؤتمر "إيران الحرة 2025" في واشنطن.. رؤية شاملة لإنهاء النظام الديني


ورقة بحثية: مصر تستعيد الزعامة العربية رغم الفوضى الإقليمية


مؤتمر المبادرات الإنسانية بين الشرق والغرب وإفريقيا بمشاركة مغربية فاعلة