سؤال تهكمي..
الجنوب العربي.. بين الهوية والأهواء
كثير ما وجه السؤال التهكمي للحراك التحرري الجنوبي المطالب باستقلال الجنوب العربي من قبل اولئك السطحيون الذين لا ينظرون لأبعد من انوفهم قائلين اننا نبحر عكس التيار فالعالم يذهب نحو التوحد والتكتل ونحن نذهب باتجاه التجزئة, ويضربون المثل بالوحدة الاوربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربي والتكتلات السياسية الكبرى وغيرها من تجارب وحدوية سياسية صارت اليوم على المحك.
لم يكن تفكك الاتحاد السوفيتي هو النموذج الحديث لفشل إيجاد وحدة سياسية قائمة على التصنيف الطبقي والاعتقاد بأن الطبقة العاملة ( ياعمال العالم اتحدوا) يمكنها تأسيس دولة وطنية بل ان الاتحادات اليوغسلافي والاوروبي ومجلس التعاون الخليجي والمملكة المتحدة هي أيضا كيانات سياسية سقطت او مهددة بالسقوط فشلت في فهم مسألة الهوية الوطنية وشروط بقائها.
لاشك ان من اهم القضايا المعقدة التي يختلف حول فهمها الكثيرون هي مسألة الهوية ففشل دولة عملاقة مثل الاتحاد السوفيتي - وهي التي لم تتوان في مد يد العون للشعوب في ارجاء المعمورة كلها للتحرر من ربقة الاستعمار والعبودية - في فهم كنه المسألة الوطنية ووقوفها عاجزة عن القضاء على الشعور بالغبن العرقي في اطار الإمبراطورية ذاتها رغم كل ما اولاها المنظرون الشيوعيون الذي نجحوا في تأسيس هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف من اهتمام وبحث وتقديم الحلول هو أيضا تأكيد على صعوبة فهم المسألة الوطنية. وهاهي بريطانيا العظمى الدولة المؤسسة للديمقراطية الحديثة التي يتجاوز عمرها أربعة قرون صارت اليوم مهددة بالتفكك حيث تقف اليوم القومية الاسكتلندية مطالبة بحقها في الاستقلال وصوت شعبها مؤخرا في استفتاء للخروج من الاتحاد البريطاني بنسبة تقارب النصف.
لا نريد ان نخوض فيما أخفق فيه بشكل كبير مشروع الوحدة القومية العربية فالحديث هنا لم يقف عند حد فشل تحقيق الوحدة بين اقطار العالم العربي بل انه اليوم قد فشل حتى في الحفاظ على وحدة الدولة القطرية نفسها وهاهي الدولة في العراق وسوريا وليبيا شاهد حي على ذلك. كذلك وقفت وحدة مجلس التعاون لدول الخليج العربي بين المد والجزر واصبح هذا الاتحاد في وضع لا يحسد عليه رغم الامكانيات الهائلة التي تمتلكها دول المجلس والتجانس الكبير بين اقتصاداتها وشعوبها ما يضع سؤال كبير ومفتوح حول مفهوم الهوية الوطنية والوحدة.
عند النظر لمشروع الوحدة اليمنية يبدو جليا الفشل الذي أصابه بل والكارثة الكبرى الذي سببه فشل هذا المشروع على مستقبل دولتي اليمن فقد فشلت الدولة الموحدة وتفككت وامتلك الجنوب وضعه الخاص ورغم ان الصعوبات التي تواجه قيام الدولة في الجنوب كبيرة وترتهن لعوامل إقليمية ودولية مختلفة فإن الدولة في إطار ما يسمى بالجمهورية العربية اليمنية قد غاصت في مستنقع الصراع والتفكك والصوملة ولا يمكن استعادة هذا الكيان في الوقت القريب المنظور حتى ولو وقفت آلة الحرب .
ما يمكن استخلاصه من كل هذا ان العوامل التي دأب المنظرون على الإشارة لها باعتبارها مقومات للوحدة الوطنية لم تكن كافيه لتأسيس دولة وطنية بين الشمال اليمني والجنوب العربي مثل اللغة والثقافة والدين والتاريخ والجغرافية المشتركة والانتماء العرقي فكل تلك مع الاختلافات التي تقل او تكثر ليست كافية لنجاح الوحدة بل ان العامل الحاسم هو وجود الكيان السياسي المسمى بالدولة الوطنية القوية التي يمكن لها ليس فقط ان توحد بل وتؤسس لهوية وطنية ايضا.
قامت الوحدة اليمنية على أسس هشة اعتمدت بدرجة أولى على الدعاوي الايدلوجية كادعائهم بوحدة الشعب اليمني عبر التاريخ وتجاهلت كل العناصر الضرورية الأخرى رغم تهيؤ الفرص التي لا يمكن ان تتكرر اليوم مثل سقوط النظام السياسي اليساري في الجنوب العربي واستيلاء النخبة السياسية اليمنية في صنعاء ومراكز القوى على الثروات الجنوبية وتمكينها من بناء جيش ومؤسسات قمعية ودولة مركزية شديدة الا انها غلبت عنصر الايدلوجيا على بقية العناصر الأخرى فأوصلها الى ما هي عليه اليوم.
حري بنا ان نسلط الضوء على سمات تلك السياسة الايدلوجية التي اعتمدتها صنعاء نهجا أساسيا, فقد دأبت على نفي مسمى الكيان الجنوبي العربي وخصوصيات الشعب الجنوبي الذي يقطن هذه الرجعة الجغرافية التي عرفت حديثا باسم اليمن الجنوبي واصروا على وجود شعب يمني موحد عبر التاريخ ودولة يمنية دون أي سند تاريخي.
لن اجادل في الاسم ما إذا كان الجنوب العربي او حضرموت او غيره فالأمر سيان ولكن ما هو بديهي ان اطلاق أسماء جهات على منطقة معينه يؤكد على وجود شعوب وقوميات متعددة في هذه المنطقة, فمثلا شرق أوروبا وشمال افريقيا وشرق وغرب افريقيا ووسط اسيا كل هذه جهات جغرافية تجتمع بداخلها شعوب وقوميات مختلفة.. ولان اليمن تعني الجنوب يقابلها الشام وتعني الشمال فإن اطلاق اليمن على المنطقة الجغرافية المعروفة تاريخيا والممتدة من جنوب الكعبة حتى عدن وتضم معها عمان وساحلها المعروف اليوم بالإمارات العربية ينفي وجود شعب يمني موحد عبر التاريخ وأن شعوبا ودول مختلفة لها خصوصياتها عاشت وتعيش في اليمن هو الحقيقة, فما ينطبق على عمان والامارات وقطر والبحرين أيضا ينطبق على شعب الجنوب العربي ولا يمكن بمجرد تبنى دولة اسم اليمن ان تدعي انتماء بقية أجزاء اليمن الجغرافي لها كما فعلت المملكة المتوكلية اليمنية.
كذلك سعت دولة الوحدة اليمنية إلى محاولة طمس ثقافة الجنوب عبر محو المعالم والسمات والخصوصيات الثقافية الجنوبية وتزوير التاريخ في المناهج والكتابات المختلفة وتغيير أسماء الشوارع والمدارس والمؤسسات العسكرية ونشر ثقافة الفوضى والقيم الدخيلة ونشر الغناء والرقص الصنعاني وغيرها فلم تحصد من ذلك سوى استعداء الجنوبيين وإثارة نعراتهم وحميتهم على كل شيء قادم من صنعاء.
هكذا ينطبق أيضا على العنصر الديني, فرغم عدم وجود طوائف مسيحية او يهودية وغيرها في اليمن فإن محاولة تسييد المذهب الزيدي الشيعي بل ورعاية ونشر تيار شيعي متطرف ممثلا بالحوثيين قد استنفر الطائفة السنية الشافعية واجج الصراع بينهما فجعل من العنصر الديني اليوم احد ابرز العوامل التي تؤدي الى الفرقة في محاكاة لما يجري الان في العراق والبحرين وسوريا بكل اسف.
ويبرز الانتماء العرقي هو الآخر كعنصر عرف عنه كأحد اهم مقومات الوحدة الوطنية فإنه بغياب هذه الدولة يلعب دورا سلبيا خطيرا, فقد نجحت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في تأسيس دولة وطنية كانت وعاءا لثلاثة وعشرون سلطنة ومشيخة وخلقت تمازج وتداخل ناجح بين هذه الكيانات لولا اختراق المشروع اليمني للكيان السياسي الجنوبي الذي حول مشروع الدولة الوطنية الى مشروع أيديولوجي فاشل سبب الصراعات المتدثرة بالعباءة الايدلوجية والسياسية ولعب العنصر الاثني ( المناطقي) الدور الأبرز في تدمير كيان الدولة الجنوبية.
لقد صار الحديث عن الوحدة اليمنية اليوم في ظل تفكك كيان الجمهورية العربية اليمنية بهذا الشكل المرعب خطابا لم يعد يؤمن به حتى من يرددوه فأصحابه مثلهم مثل ذلك الذي لا يقوى على تحمل المعاناة فيهرب من واقعه الى عالم الجنون, تدخلت في هذا التفكك عوامل طائفية دينية وسياسية وتاريخية واثنية مختلفة ستقف جميعها حائلا امام قيام دولة موحدة في الرقعة الجغرافية التي عرفت بالمملكة المتوكلية اليمنية ثم الجمهورية العربية اليمنية فلم نعد اليوم بحاجة لان نبرر او نبرهن على حق وجود دولة جنوبية مستقلة أيا كان اسمها بل اننا امام فشل واستحالة قيام شيء اسمه دولة الوحدة اليمنية.
ومع هذا يقف اليوم الجنوب العربي او الحضرمي أيضا في مفترق طرق فرغم ان ارثه الإيجابي والتاريخي مكنه من الصمود في وجه الموجة المدمرة ساعيا الى تلمس طريق إقامة دولة وطنية جنوبية فإن العوامل السياسية الإقليمية والدولية اليوم تقف حجر عثرة في طريق قيام هذا الكيان وتشكل خطرا لا يقل عن ذلك الذي فعله التدخل الأمريكي في العراق من خلال محاولة تفكيك كيانه التاريخي وتقسيمه الى أقاليم في اطار دولة فشلت حتى في الحفاظ على ابسط حقوق المواطنة.
عدن الشيخ عثمان