عاش اليمنيون منسجمين فيما بينهم عبر قرون من الزمن، ويرجع هذا التعايش إلى طبيعة المذهبين السائدين في اليمن اللذين يميلان إلى التعايش والقبول بالآخر(الزيدية- السنية)، حيث بلغ التعايش إلى حد أن بعض الفقهاء والمؤرخين وصفوا الزيدية في اليمن بـ «سنة الشيعة»، لقربهم من المذهب السني، إضافة إلى أن المذهب الشافعي معروف عنه الوسطية والاعتدال.
وساد عبر عقود من الزمن ما يمكن وصفة بتقاسم غير مكتوب للأدوار، حيث كان هرم السلطة السياسية والعسكرية في يد الأقلية الزيدية، بينما انصرفت الأغلبية من الشوافع إلى مجالات التجارة والمال والأعمال، لكنهم كانوا موجودين بشكل كبير ـ بحكم أنهم كانوا أكثر تعليماً وثقافة وخبرة ـ في الجهاز البيروقراطي للدولة.
ومنذ أن برزت إلى السطح «الظاهرة الحوثية» الإرهابية من رحم الزيدية في تسعينيات القرن الماضي وتحولها إلى حركة عسكرية ـ سياسية في العقد الأول من هذا القرن، بدأ المشهد اليمني يتغير، وبرزت ملامح صراع كان في الأساس صراعاً داخل الطائفة الزيدية نفسها، حيث وكما هو معروف انبثقت الحوثية عن الزيدية.
وتجدر الإشارة إلى أن إثارة النعرات الطائفية لأي شعب من الشعوب تمثل خطراً على تماسك النسيج الاجتماعي، وتوظيفها بقضايا لا تخدم وحدة الوطن، لذا ظهر الصراع المذهبي إلى الوجود كحالة من حالات الصراع على السلطة، أدى إلى خلق ثقافة وقناعة ومشروع طائفي ومناطقي أشد خطراً، وراهنت القوى السياسية على استخدام الورقة المذهبية لتحقيق مكاسب سياسية، الأمر الذي عزز من حالة الفرز المذهبي التصادمي، وظهور «الميليشيات»، واحتلال مؤسسات الدولة، والترويج الإعلامي السياسي لثقافة وإثارة الصراع المذهبي، وسيادة روح الحقد والكراهية التي تقود جماعة الحوثي الإرهابية إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وتمزيق الوحدة الوطنية، وإشاعة الفوضى في ظل ضعف وغياب الدولة.
الحوثيون يقوضون التغيير السلمي
الحوثيون لهم طموحات أكبر من حجمهم الفعلي في البلاد، وهي طموحات مرتبطة بأمجاد إمامية قديمة حكم فيها أجدادهم أجزاء من اليمن لمئات السنين، وكذلك قناعتهم -مثل نظام الملالي في إيران- بأن الإمام هو أعلى سلطة من رئيس الدولة، وهو الذي يملك حق الفصل في القرارات السيادية.
أفعال الحركة الحوثية تهدد تقويض حلم الدولة الديمقراطية المدنية الحاضنة لكل مواطنيها بجميع مذاهبهم الدينية وتوجهاتهم السياسية، ومما ساعد ذلك هو ما تتلقاه الجماعة من دعم طائفي خارجي إيراني بالدرجة الرئيسة.
صعدة مركز أهل الكهف
وبالعودة للخلفية التاريخية لجماعة الحوثي، فتعتبر مدينة صعدة هي معقل الزيدية ومركز الإمامة لمدة تزيد على ألف عام منذ سكنها الإمام الهادي يحيى بن الحسين عام 896. وعندما انتهت الحرب الأهلية بعد إعلان النظام الجمهوري وإسقاط الإمامة في عام 1969 تم تسليم صعده للنظام الجمهوري.
اعتاد اليمنيون تسمية الحوثيين بأهل الكهف في كناية ذات دلالة كثيفة على طبيعة الجماعة وكيفية نشوئها، فمن رحم صعدة وجبالها مران وضحيان التي تعد أكثر معاقل الزيدية تشدداً وعزلة، ظهرت جماعة الحوثي كحركة إحيائية للمذهب الزيدي ممثلة بمخيمات منتدى الشباب المؤمن التي تأسست عام 1990.
تحوّلت الفكرة من مجرد محاولة لتدريس مناهج تبسيطية للمذهب الزيدي إلى نشوء جماعة ذات طابع سياسي بسبب الطموح الشخصي لحسين الحوثي ابن العلامة الزيدي المتشدد بدر الدين الحوثي الذي كان يمنح اعتماده لمناهج منتديات الشباب المؤمن. كان حسين الحوثي قد زار إيران في ثمانينيات القرن الماضي، ثم السودان، ليعود إلى اليمن عام 1993 متأثراً بشعارات الثورة الإيرانية وأدبياتها السياسية، وكان يمتلك شخصية كاريزمية مؤثرة وقدرة خطابية متميزة.
بدأ حسين الحوثي بإلقاء خطبه في المساجد، وهي خطب سياسية عن المسلمين الذين تشتتوا وتدهور بهم الحال حتى أصبحوا عرضةً للعدوان الأميركي ــ الإسرائيلي. تتسم هذه الخطب بالطابع العاطفي وتصوّراتها السياسية السطحية والساذجة، حيث تدعو إلى العودة للماضي، وترفض جميع المفاهيم الحديثة بحجة أنها دسائس غربية لإفساد المسلمين، مثل الديمقراطية القائمة على فكرة المواطنة، أو الهجوم على فكرة الهوية الوطنية التي تتباهى بتاريخ ما قبل الإسلام.
اتخذت الجماعة الطابع العسكري عندما انطلقت أولى جولات حروب صعدة في يونيو عام 2004، إثر محاولة قوات الأمن اليمنية إلقاء القبض على حسين الحوثي لقيادته تنظيماً مسلّحاً متمرّداً على الدولة. وأدّت محاولة القبض هذه إلى اشتباكات في منطقة ذات طابع قبلي ــ ديني محافظ وبعيدة عن سيطرة الحكومة المركزية، وانتهت الجولة الأولى من القتال في سبتمبر 2004 بقتل حسين الحوثي.
استؤنفت جولات القتال سريعاً في مارس 2005، وبدءاً من الجولة الثالثة من القتال، في فبراير 2006، تولّى عبدالملك الحوثي قيادة المجموعة، وهو الأخ الأصغر، من غير الأشقاء، لحسين الحوثي.. لا يمكن معرفة كيف وقع الاختيار عليه أو لماذا؟، لكن الواضح أنّ طبيعة الصراع العسكرية كانت مناسبة للشاب الذي كان في أواخر العشرينيات من العمر حينها، ولم يسبق له الخروج من صعدة، وكل حصيلته من التعليم بعض التعليم الديني الذي تلقاه عن والده، بعكس أخيه الذي سبق له السفر والعمل السياسي وتلقّى التعليم الحديث.
هذا الانتقال من حالة مذهبية إلى حالة سياسية ثم عسكرية، متّسق مع المذهب الزيدي، فما يميّزه عن بقية المذاهب ــ والسنية تحديداً ــ تشريعه للخروج عن الحاكم الظالم، ونصه صريح على مسألة الإمامة وشروطها، لذا كان من البديهي أن تتطور الزيدية، وبالتالي الحوثية، إلى مرحلة التمرد العسكري على الدولة.
حالة العزلة
ليست العزلة التي تمثلها الجماعة عزلة مكانية فقط، بل هي زمنية أيضاً، حيث تنتمي أفكار الجماعة وقياداتها إلى زمن مضى، وهذا يظهر واضحاً من محاضرات حسين الحوثي التي تتبنّى فكرة الإمامة المحصورة ببني هاشم ضمن فكرة الخروج على الحاكم الظالم، ويستمدّ حينها الإمام شرعيته من التمكين الإلهي أي من خلال انتصار الإمام على الحاكم الظالم.
وعانى المذهب الزيدي حالة جمود طويلة ولم يعرف محاولات تجديد تُذكر منذ عشرات السنين، وبقيام النظام الجمهوري، أصبحت أفكار المذهب السياسية لا تتناسب مع الزمن. لذا سرعان ما تحوّلت عملية إحياء المذهب إلى حركة سياسية وعسكرية متمرّدة على النظام. إذاً، هي ليست عملية إحيائية نابعة من تطوّر ثقافي وديني داخل المذهب، فهذا في الغالب يعكس تطوراً سياسياً واجتماعياً لم تشهده اليمن، بدليل أن العلماء الزيديين الذين أشرفوا على هذه المعاهد كانوا ضمن الأكثر تشدداً مثل الشيخ بدر الدين الحوثي، ويميلون إلى تيار الجارودية داخل المذهب الزيدي الذي يتجه لتكفير المخالفين عموماً.
وبسبب من إرث عزلة طويل ارتبط بالإمامة، انحصر المذهب الزيدي في أقصى شمال اليمن، حيث الجبال الجرداء، فقيرة الموارد، الأمر الذي أكسب قبائل هذه المناطق باعاً قتالياً طويلاً، يتغذّى بمبدأ «الخروج» المتضمن في المذهب، ولذا ارتبطت الزيدية بالقبائل وبالمناطق الجبلية المفقرة، حيث البيئة تناسب مزاجها القتالي.