التعبئة للحرب..

تقرير: ما هي الأخطاء القاتلة للمبعوث الخاص إلى اليمن؟

مهمة مارتن غريفيث كصانع سلام قد انتهت، لكن يمكنه أن ينجح في صناعة حرب أسوأ في اليمن

أمين الوائلي

مهمة مارتن غريفيث كصانع سلام قد انتهت، لكن يمكنه أن ينجح في صناعة حرب أسوأ في اليمن

الكثير من مشاعر الرفض في اليمن شيّعت الجولة الأخيرة للمبعوث الأممي مارتن غريفيث وزيارته إلى مدينة وميناء الحديدة. الرجل لامس منطقة حساسة في وعي وتجربة اليمنيين، كان عليه من البداية؛ أن يتحاشى الخطوط المُكهربة، وأن يتعاطى مع مهمته كوسيط بين طرفين لا كطرف، وأن لا يستخف بالعقلية السياسية اليمنية التي تستطيع التفريق بين مُيسّر للحلول ومُعقِّد للمشكلات.

تشييعه للانقلابيين، فيما يبدو لليمنيين، يعيد صياغة الصفة والمهمة التي انتُدب إليها. الوسيط لا يفرض رأياً، ولا يقرر من تلقاء نفسه ما يكون وما يجب. ميناء الحديدة ليس الموضوع الذي يجب أن يتعامل معه وسيط ميسر لحوار بين طرفين. ولا حتى الملف الإنساني الذي ركب عليه البريطاني مارتن غريفيث مهمته السياسية البحتة.

لغة ومحاذير الوصاية والانتداب تورط فيها غريفيث بصورة مباشرة ومفاجئة. من على رصيف ميناء الحديدة، وفيما يشبه مشهداً درامياً متصنَّعاً أكثر مما يحتمله الظرف والتوقيت، أطلق الرجل تصريحات الوجوب والضرورة بتسليم الميناء للدوليين، للوصاية الدولية بموجب تفاهم تم بينه وزعيم الانقلابيين (..).

يفترض أن غريفيث مهمته تنفيذ قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، وهي تنص على إنهاء الانقلاب وتمكين الشرعية من استعادة زمام البلاد والسلطة ومعالجة الإشكالات التي ولّدها انقلاب المليشيات.

لكنه يتفاهم مع الانقلابيين لتسليم ميناء الحديدة ليس للشرعية بل لإدارة دولية. هذه ليست في نظر اليمنيين إلا بداية سيئة لمسلسل من التجاوزات المُذلة والانتهاك الصارخ للسيادة وللشرعية. لن يسمح أو يقبل اليمنيون، وتحت أي ظرف أو تبرير بحدوث هذا.

على غريفيث وعلى البريطانيين والأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن يفهموا أو يتفهّموا الحالة اليمنية تماماً. لا يجوز العمل في منطقة ملغومة ومعبأة بالمشاعر المتفجّرة والرفض المحتقن.

وليتفهموا ـأيضاًـ وبالخصوص؛ أن سيرة وتجربة البريطانيين الاستعمارية في جنوب اليمن، وعلى مدى أكثر من 120 سنة في عدن خاصة، لا تشجع كثيراً على التفاؤل حيال مهمة سياسي بريطاني في اليمن أول ما بدأ به اقتطاع ميناء الحديدة للوصاية الدولية. هنا دخل في حقل ألغام وتجاوز مهمته. عملياً مهمة غريفيث انتهت ووصلت بدءاً من هذا التوقيت إلى نهايتها. لن يكون هو صانع الفارق في الأزمة اليمنية. ينبغي استبداله فوراً، فيما لو كانت الإرادة الدولية والمنظمة الدولية جادة في البحث عن حل سياسي في اليمن.

السيد غريفيث تورط من البداية في التعاطي مع الحوثيين كشريك أول يهمه كثيراً استمالته بأي ثمن، وفي هذا ساق إليه التنازلات، واستعان على الشرعية وعلى القرارات الدولية بالضغوط الأمريكية والبريطانية. هو قالها صراحة أكثر من مرة في تصريحات صحفية متلفزة ومقروءة. إنه طلب، بصفة خاصة وشخصية، تدخل الإدارة الأمريكية لمساعدته في مهمته. يعني هذا ممارسة الضغط على التحالف العربي والسلطات الشرعية اليمنية.. وهذا ما كان.

ولم يكن حذراً في تجاهل احتقانات شعبية معبأة ضد الحوثيين، وجاء من مكان بعيد ومن خارج المشهد ليست لديه أي أفكار أو خبرة حول معاناة وآلام اليمنيين بسبب الحوثيين طوال أربع سنوات كانت مدمِّرة لمسيرة ستين سنة دولة وجمهورية ومؤسسات وسلم أهلي ونسيج اجتماعي واقتصاد وممارسة مدنية وحقوق ومعيشة ووظيفة عامة ومتاحات لا حصر لها.

للأسف جاء الوسيط الدولي وعينه على الحوثيين، وقرأ فقط من كتابهم.
لم يكلف نفسه، إلى اليوم وبعد سنة من تعيينه، بأن يستمع إلى شباب ونساء وناشطين وفاعلين يمنيين من مستويات مختلفة داخل أي مدينة يمنية. مئات الآلاف من اليمنيين هم فعلياً في حالة نزوح داخلي. التشرد يكتسح معظم العائلات. وهؤلاء يتواجدون في عدن وغيرها. يمكن لأي وسيط أو مبتعث دولي في مهمة أن يطلب تدبير وتيسير لقاء مع هؤلاء ويستمع إلى قصصهم وما لديهم، يساعده هذا في تكوين تصور حول ما يتعامل معه. لكنه لم يفعل. عن أي وسيط نتحدث وهو مارس جولات عدة إلى اليمن للقاء الحوثيين فقط؟

تجاهُل مخزون الاحتقان في الأنفس سيعني تجاهُل الشعب أو معظم وغالبية الشعب الذي يحتفظ بموقف متحفز لمناجزة الحوثيين ثأر خصومة وعدوان وبطش وتجبر وقهر وهدم وقتل وتقويض أسباب التعايش والسلام والتنمية والمستقبل.

يتبنى غريفيث فتح مطار صنعاء الدولي في قبضة الحوثيين، ويتبنى شروطهم الرافضة لأي إشراف من قبل جهة أو طرف عربي أو غير عربي. وهم انقلابيون مدانون بقرارات دولية.

وفي المقابل يتبنى شروط الانقلابيين ضد السلطة الشرعية بعدم تمكينها من حقها ومسئولياتها في مدينة وميناء الحديدة، وبدلاً من السلطات الحكومية الشرعية يجلب وصاية دولية تبدأ بالميناء، ويتوخى اليمنيون حذراً أنها لن تتوقف في الرصيف ولا في الميناء ولا في الحديدة حتى.

أي صيغة تسوية تتبنى فرض أو تثبيت الحوثيين كواقع لا مناص منه، هي صيغة حرب لا سلام. تنص القرارات الدولية على إنهاء الانقلاب، وانسحاب الحوثيين من العاصمة والمدن، وتسليم السلاح، وعودة الدولة والسلطة والمؤسسات. بينما غريفيث يفاوض الحوثيين ويتفاهم معهم لمنع ووقف تحرير الحديدة ولتسليم الميناء لإدارة دولية وليس للسلطة الشرعية. فماذا عن العاصمة والدولة والجيش والسلاح؟

هذا مشروع حرب يعبئ اليمنيين ضده. إن كانت مهمة غريفيث هي السلام، فقد فشل. ومهما استمر لن يكون مفيداً للسلام. والأيام كفيلة بإيضاح هذا.