مسرح غرناطة..

"سحت الليل" حين ينعم القتلة بالحرية بدلاً من الضحايا والأبرياء

يتيمة متيّمة تقع في خداع زوج مزيّف

مخلص الصغير

حين اخترع آلهة الحرب المعاصرون عبارة “مسرح الحرب”، أو “مسرح العمليات”، ربما كانوا صادقين، لأول مرة، بالنظر إلى ما تخلفه الحروب من تراجيديات فوق سطح الأرض، تفوق تلك المآسي التي يمكن أن تخطر على بال المسرحيين وخيالهم. ولعل هذا ما تؤكده المسرحية المغربية “سحت الليل” لفرقة غرناطة، والتي عرضت ضمن المسابقة الرسمية من المهرجان الوطني للمسرح المغربي.

قدّمت فرقة “مسرح غرناطة” من مدينة الدار البيضاء عرضها المسرحي الجديد “سحت الليل” في مهرجان المسرح المغربي، الذي تحتضنه مدينة تطوان، خلال الأسبوع الجاري. وهي مسرحية عن الحرب، وعن ضحاياها الذين لا حصر لهم، بمن فيهم أولئك الذين شاركوا فيها، دون أن يعرفوا أي شيء، مثلما هي مسرحية عن الذين ظلوا ينتظرون العائدين من الحرب، من أطفال وأمهات أعياهم الانتظار، وأنهكتهم الحرب، فماتوا قبل الجنود.

تقدّم ممثلو المسرحية بخطى واثقة نحو خشبة المسرح، في المركز الثقافي للمدينة، بعد أن توجوا، قبل أيام، بالجائزة الكبرى لمهرجان الدار البيضاء للمسرح الاحترافي، مثلما توجت بطلة المسرحية “فاطمة” أو الممثلة هند بن جبارة، بجائزة أحسن دور نسائي في المهرجان. وإذا كانت المسرحية قد انشغلت بأحداثها دون العناية بالتفاصيل الجمالية للعرض المسرحي، غير أن احترافية ثلاثة ممثلين خبروا خشبة المسرح وشاشة السينما، وهم عبدو الحمولي وعبدالرحيم المنياري إلى جانب هند بن جبارة، وضعونا أمام عمل احترافي في نهاية المطاف، ومنذ بداية العرض.

أغنية للحرب
تنطلق المسرحية على إيقاع صوت فاطمة، وهي تحكي آلامها وتغنيها، بصوتها الشجي، حيث غادر زوجها إلى حرب لا يعلم عنها شيئا، بعدما قضى معها ثلاثة أيام لا أكثر. هي التي كانت يتيمة تفتقد كل شيء، والدها ووالدتها، ثم فقدت زوجها.

موسيقى مونوفونية، بمثابة نوبة استهلال تنوح فيها البطلة بعذاباتها، حيث يحاول مخرج المسرحية أن يدمج المشاهد في عمله ويشده إليه. ولعل هذا هو السحر الذي تلعبه الموسيقى التعبيرية، وهي تعبيرية دائما. ولا تزال كلمة موسيقى، عند الإغريق، مخترعي المسرح، تعني الرقص والتمثيل والغناء، سواء بسواء.


هذا الحوار بين المونوفوني والسيمفوني هو الذي قربنا أكثر من هذه المسرحية، حيث تحكي بطلتها قصة عزلتها القاسية، بعدما رحل زوجها في اليوم الثالث نحو ساحة الحرب، بينما أغلق عليها عمها أبواب البيت، وظل يأتيها بما تحتاج إليه كل أسبوع.

بينما ظل عمها “المخلوفي” يتحكم في إرث والدها وأراضيه، ويعبث به “لا بويا لا يمة/ لا خويا لا ولد العم. لا عيلة لا ريحة دم”، هكذا يصدح صوت فاطمة في الأغنية الثانية من المشهد الأول، الذي تواصل في خلفية رمادية وشاحبة، تصرخ هي الأخرى بمرارة الحكاية التي تقدّمها المسرحية.

وظلت فاطمة تكابد الشوق والعزلة المفروضة على مدى ستة عشر عاما، يزورها طيف زوجها “العربي”، فتقترّب منه وتحضنه، قبل أن تكتشف أنها لا تعانق غير السراب.

وفجأة، طلع عليها الرجل في زي عسكري، فلم تتعرّف إليه. أكد لها أنه هو زوجها العربي، وأن هذه الحرب قد فعلت به ما فعلته، على امتداد هذه السنوات. انتبهت إلى أنه قصير، بينها كان زوجها طويل القامة، وإلى أنه أبيض اللون بينما كان زوجها أسمر اللون. فأكّد لها أن الحرب تستطيع أن تجعل الطويل قصيرا والقصير طويلا، وأن كل هذه السنوات قادرة على أن تحيل الإنسان إلى كائن شاحب باهت لا لون له ولا حول ولا قوة.

اختبرته فحدّثها عن الثلاثة أيام التي قضياها معا، وعن الخال (الشامة) الذي في ظهرها، والوشم الذي هنا، والخال الذي هنالك، وعن أسماء عائلتها وما إلى ذلك.. ولأنها ظلت في حاجة إلى زوجها، هي اليتيمة المتيّمة، فقد صدّقت وآمنت به. وظل معها في البيت مدى سنة كاملة، دون أن يعلم أحد بالأمر إلى أن حملت منه.

والحق أنه “المختار” وليس العربي، المختار الذي كان زميلا لزوجها العربي في السجن. والعربي الذي حدّث المختار عن قصته وتفاصيلها مع زوجته وعائلته، فاستغل كل ذلك، ولجأ إليها حين فرّ من الحرب قبل أن تضع أوزارها. بينما اضطرت الظروف فاطمة إلى العيش مع زوج مزيّف كل هذه المدة.

بعد سنة أو يزيد، عاد العربي، وهو الزوج الحقيقي، من الحرب، وقد فقد رجله ورجولته، كما جاء في حديث المسرحية. أنكرته زوجته، بل وأنكره والده نفسه. بل إن دهاء المختار جعله يقنع القبيلة كلها بأنه هو المختار، وبأن ذلك الجندي الذي يشبه قطعة من أنقاض الحرب لا علاقة له بهم. كل ذلك يجري أمام خلفية قاتمة وسينوغرافيا باهتة يشفع لها موضوع الحرب.

وفاء الكلب
عندما قضت فاطمة ستة عشر عاما في عزلتها، لم يكن رفقتها سوى الكلب الذي ظل يحرس البيت. وهو الكلب الذي ظل ينتظر معها زوجها العربي، حيث يحضر القناع ليعبّر عن موقف فئة اجتماعية، حسب هيلتون جوليان في “نظرية العرض المسرحي”. فكان الكلب هو الوفي الوحيد لفاطمة والعربي، وظل يحرس زوجته في انتظار عودته. وكان مؤثرا ثم معبرا أن يسند المخرج هذا الدور لممثلة تتقن العزف على آلة الكمان. فكان تعبيرا من حيوان أليف يقوى على وصف الآلام ولا يقوى على الكلام.

تنبه المختار إلى أن فاطمة تعرف أن من اقتحم عزلتها الطويلة ليس هو العربي، بعد أن خبرت ملامحه إثر عودته من الحرب ودمارها. وما دام يريد أن تشهد له أمام القاضي بأنه زوجها لكي يسطو على أملاك “والده” وأن يرثها حية، فقد قرّر أن يقتل الكلب وأن يرميه ببندقيته، حتى يقضي على روح الوفاء لديها، لئلا تحسّ بأي حنين أو وفاء لزوجها المنهك، لحظة الوقوف أمام حضرة العدالة المفتقدة. كما استغل الزوج “المزيّف” كراهية فاطمة لعمها، الذي يتحكم في ميراثها من والدها دون موجب حق.

المسرحية المغربية تستلهم من التجارب الدرامية التي عاشتها خشبة المسرح العالمي بعد الحربين العالميتين وما بينهما

دخل زوجها العربي إلى البيت، على كرسي نقال، فرفع العربي المزيّف، المختار، البندقية في وجهه، وأراد أن يقتله كما فعل بالكلب. حاولت فاطمة أن تمنعه من ذلك، لكن زوجها الحقيقي العربي سيواصل التحدي حين أكّد لها أن المختار لا يمكن أن يقتله، ما دام يريد السطو على الأرض وعلى الثورة، وهو إن كان قد حكى للمختار الكثير من الأسرار التي تلاعب بها ووظفها ليقتحم حياته وحرمته، لكنه لا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار الأخرى، التي سيخبر بها القاضي والقضاء والعدالة.

وهنا تراجع المختار إلى الوراء، وأيقن أن كل ما خطّط له أصبح معرضا للفشل. لكن الظلام كان قد أسدل ستارته، وانتهت المسرحية.. لكن الحرب لم تضع أوزارها بعد.

مسرحية تذكرنا بالتجارب الدرامية التي عاشتها خشبة المسرح العالمي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بينهما، وهي الخشبة التي تحوّلت إلى منصة للإدانة الفنية، خاصة مع التجارب الألمانية مع بريخت وكارل تسوكماير وجورج تابوري.

هي لحظة فنية ينتقل فيها التاريخ إلى خشبة المسرح، مثلما هي جلسة لمحاكمة التاريخ وما صنعه بنا في جلسة مسرحية واحدة. لكن، وكما حدث في هذا العرض المسرحي، فقد ظل موعد المحاكمة مؤجلا.. حيث تأجل كل شيء، بما في ذلك الحكم على القتلة، الذين ينعمون بالغفران والحرية بدلا من الأبرياء الضحايا.