إثارة شهية تركيا..

تقرير عربي: هل يتكرر سيناريو ليبيا في ساحة الصراع اليمنية؟

الرئيس التركي رجب أردوغان مع نظيره اليمني عبد ربه منصور هادي

منير بن وبر

تزداد الشواهد حول انضمامٍ تركي إلى ساحة الصراع اليمنية، يوماً بعد آخر، وهو انضمامٌ مدفوع بخليط من الحوافز الفكرية والتاريخية والسياسية والاقتصادية. لقد أصبح اليمن ضمن أجندة تركيا منذ بدء التحول نحو إحياء الدولة العثمانية، وهو المشروع الذي يقوده حزب العدالة والتنمية منذ عام 2001؛ حيث يعتبر الأتراك اليمنَ جزءاً من تركة الدولة العثمانية.

وعلى الرغم من بوادر الاهتمام التركي باليمن؛ فإن ذلك لم يجعله على رأس أولويات أنقرة على الدوام، بل تم الاكتفاء بتحريكها في سُلَّم الأولويات، حسب ما تقتضي السياسة الخارجية التركية من توازنٍ دقيق بين الشرق والغرب، في ظل مجتمع عالمي فوضوي، وتحديات اقتصادية خانقة، وصراع مُستعر في الشرق الأوسط. ومع ذلك، تثير التحركات التركية الأخيرة في اليمن مخاوف الكثير من المراقبين من تكرار تجربة مشابهة للتدخل التركي في ليبيا، وبالتالي سكب المزيد من الزيت على النار في اليمن الذي يعاني أزمة منذ عقد تقريباً.

الانجذاب نحو البحر الأحمر

يسعى حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، ذو التوجهات السياسية الإسلامية، إلى استعادة الدور العثماني في المنطقة العربية، مُنقاداً بتوقعات لتحوّل مركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق؛ مما يعطي تركيا الفرصة لأن تكون دولة محورية بفضل موقعها وموقع البلدان التي تطمح في إخضاعها لنفوذها بشكل أو بآخر.

وعلى عكسِ الدول الإسلامية السابقة لها، كالدولة العباسية، كان للدولة العثمانية حضور أكثر تميزاً على ضفتَي البحر الأحمر؛ لما لهذه المنطقة من أهمية في التجارة بين شرق العالم وغربه. يتميز اليمن بموقعه الفريد على مدخل هذا الممر الحيوي؛ وهذا ما دفع السياسي العثماني خادم سليمان باشا، لوصف اليمن قبل احتلاله عام 1539، بالقول: “عندما نسيطر عليها (أي اليمن)، ستصبح سيدة أراضي الهند، تُرسِل كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات إلى إسطنبول”.

ويمكن ملاحظة انجذاب العثمانيين نحو اليمن وسواحل البحر الأحمر، في حقبة الوجود العثماني الأول في اليمن، من خلال تركيزهم على احتلال عدن، بالإضافة إلى تهامة؛ وهي السهل الساحلي المحاذي للبحر الأحمر، والذي يشمل اليوم الحُديدة اليمنية، وعدداً من المناطق داخل الأراضي السعودية.


أعاد حزب العدالة والتنمية التركي حديثاً الاهتمام باليمن، بالذات الجزء المُطل على البحر الأحمر، منذ ما قبل ثورة الشباب اليمنية؛ من خلال استثمارات ضخمة لإنشاء منطقة صناعية في الحديدة، ومنطقة تجارة حرة بعدن، إضافة إلى مشروع محطة كهربائية في عدن، ومجالات تعاون اقتصادي أخرى. وتماشياً مع الاهتمام العثماني القديم، نرى تركيا اليوم تُظهر حرصاً أيضاً على الجانب الآخر من البحر الأحمر من خلال السعي الملحوظ للوجود العسكري والتجاري في الصومال وجيبوتي والسودان.

تنافس عالمي محفوف بالمخاطر

يجذب موقع اليمن الفريد، وفراغ السلطة الآخذ في التزايد، الكثيرَ من القوى الخارجية بمستويات مختلفة؛ بما في ذلك الصين وروسيا، وبالطبع إيران؛ وهذا المد من الشرق يجر بدوره الولايات المتحدة، أحد أهم حلفاء تركيا الغربيين.

تنخرط روسيا بشكلٍ واضح في ليبيا، ولديها توجهات للتدخل في اليمن بميلٍ ملحوظ نحو الجنوب. برزت الرغبة الروسية في اليمن منذ عام 2009 عندما قررت إنشاء قاعدة عسكرية في السواحل الجنوبية، كما تمتلك حالياً علاقات ودية متنامية مع المجلس الانتقالي الجنوبي. من جانب آخر، يحاول الحوثيون استمالة الروس لصالحهم بدافع مواجهة التمدد الغربي، واستغلالاً لعلاقة روسيا بإيران، كما تؤيد موسكو الحكومة الشرعية المُعترف بها دولياً.


تُعد روسيا، كما هو معروف، منافساً تقليدياً للولايات المتحدة من جانب، وحليفاً لتركيا من جانب آخر؛ وبالتالي فإن حِرص أنقرة على علاقات متوازنة مع واشنطن وموسكو هو هدف استراتيجي لا يمكن المجازفة به.

الحاجة إلى توازن القوى

على الرغم من أن أنقرة حليف مهم لواشنطن؛ فإن ذلك لم يمنع التوتر بين العاصمتَين، في العام الماضي أعلنت الولايات المتحدة عقوبات استهدفت وزارتي الدفاع والطاقة في تركيا، بعد أن اشتبكت القوات التركية مع الأكراد في سوريا. ومن ناحيةٍ أخرى، أعلن ترامب زيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب التركية، وأوقف مفاوضات صفقة تجارية بأكثر من 100 مليار دولار. كما كان توجه تركيا لشراء نظام أسلحة “S-400” الروسي، سبباً آخر لإثارة الغضب الأمريكي.

تشهد تركيا العديد من نقاط الضعف الاقتصادية مؤخراً، ويمكن لأزمة جائحة كورونا أن تفاقمها، وسيؤثر كل ذلك سلباً على الإنجازات التي أحرزتها البلاد خلال معظم الفترة منذ عام 2000؛ لذلك فإن المخاطرة بمزيد من الاستفزازات التركية للولايات المتحدة، كشريكٍ تجاري وأمني مهم، يمكن أن تتسبب في المزيد من العقوبات الضارة بالاقتصاد التركي، ومن هنا يأتي مسعى أنقرة لخلق توازن للقوى من خلال الوقوف إلى جانب الدول الضعيفة كليبيا واليمن، وإظهار بعض المُعارضة ضد المد الروسي فيهما.


أسهم التدخل التركي في ليبيا في تنفيس الانزعاج الأمريكي من تركيا؛ من خلال مواجهتها النفوذ الروسي هناك. وفي هذا الشأن قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي، إن تركيا والولايات المتحدة قد تشرعان في عهد جديد في علاقتهما، متباهياً بتراجع قوة قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، المستمدة بكاملها من روسيا، حسب تعبيره.

يمكن لتدخل تركي محتمل مشابه في اليمن أن يؤدي دورَ ضبط التوازن التركي بين واشنطن وموسكو، وقد لا يكون سوى لأجل ذلك، على الأقل على المدى القصير؛ ولكن هناك بالفعل دعوات تركية متزايدة للانخراط بشكل أقوى في اليمن لاستعادة أدوارٍ تاريخية، يدعمها تحالف لتيار عريض من حزب الإصلاح اليمني مع حزب العدالة والتنمية التركي، وتغذيه طموحات وأيديولوجيات الخلافة الإسلامية، وجماعة الإخوان المسلمين.

يمكن أن يؤدي فراغ السلطة، وتشتت القوى في اليمن، إلى إثارة شهية تركيا أكثر؛ وبالعودة إلى قصة احتلال العثمانيين الأول لليمن نجد كيف تحفَّز خادم سليمان باشا للدعوة إلى احتلالها، بقوله: “اليمن بلد بلا حاكم، مقاطعة خالية، لن يكون احتلالها ممكناً فحسب؛ بل سهلاً”.