حافظت على شعبية النظام الملكي عبر عقود من التغيير السياسي والاجتماعي..

الملكة إليزابيث.. كيف نالت احترام الجمهوريين المتعصبين في الكثير من دول العالم؟

كانت الملكة تجسيدا لبريطانيا في الكثير من دول العالم، لكنها ظلت تمثل لغزا كفرد، فلم تجر مقابلة أبدا ونادرا ما كانت تعبر عن مشاعر أو تقدم رأيا شخصيا علنيا، فقد كانت امرأة يعترف بها الملايين لكن لا يعرفها أحد.

الملكة إليزابيث ألكسندرا

برلين

ولدت الملكة إليزابيث ألكسندرا ماري في 21 أبريل 1926 ولم تتوقع الأميرة الشابة أبدا أن تعتلي العرش فبعدما تنازل عمها الملك إدوارد الثامن عن العرش في عام 1936 بسبب حبه للمطلقة الأميركية واليس سيمبسون، انتقل التاج إلى والدها جورج السادس عندما كانت في العاشرة من عمرها.

وكانت تبلغ من العمر 25 عاما فقط عندما توفي والدها وأصبحت الملكة إليزابيث الثانية في السادس من فبراير 1952 بينما كانت تقوم بجولة في كينيا مع زوجها الأمير فيليب. وكان ونستون تشرشل أول رئيس وزراء من بين 15 رئيسا للوزراء تولوا المنصب خلال فترة حكمها.

كان الإنجاز الأكبر للملكة إليزابيث، التي توفيت الخميس بعد جلوسها على العرش لمدة سبعين عاما، هو الحفاظ على شعبية النظام الملكي عبر عقود من التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي الحاد الذي هدد بجعله مفارقة تاريخية.

أسرة الملكة والنخبة السياسية في بريطانيا معجبتان بقدرة إليزابيث على التكيف دون أن تفقد هيبة دورها

ساعدت ملكة بريطانيا، بصفتها شخصية موقرة يمكن الاعتماد عليها، والتي حكمت البلاد لفترة أطول من أي ملك بريطاني آخر، في أن تواكب المؤسسة الملكية العالم الحديث وجردتها من طقوس الديوان الملكي وجعلتها أكثر انفتاحا ويمكن الوصول إليها، وكل ذلك تحت مرأى ومسمع من وسائل الإعلام التي عادة ما كانت كثيرة التدخل والعدائية.

وبينما كانت الأمة التي تحكمها تكافح أحيانا كي تجد لنفسها مكانا في نظام عالمي جديد وغالبا ما كانت عائلتها تخالف توقعات الجماهير، ظلت الملكة نفسها رمزا للاستقرار. وحاولت أيضا تجاوز الحواجز الطبقية ونالت احترام الجمهوريين المتعصبين.

كانت الملكة تجسيدا لبريطانيا في الكثير من دول العالم، لكنها ظلت تمثل لغزا كفرد، فلم تجر مقابلة أبدا ونادرا ما كانت تعبر عن مشاعر أو تقدم رأيا شخصيا علنيا، فقد كانت امرأة يعترف بها الملايين لكن لا يعرفها أحد.

قال حفيدها الأمير وليام، الذي أصبح الآن وريث العرش، في فيلم وثائقي تلفزيوني في عام 2012 “أعتقد أنها جلبت الحياة والطاقة والعاطفة إلى الوظيفة، تمكنت من تحديث النظام الملكي وتطويره بشكل لا مثيل له”.

وقالت الملكة في فيلم وثائقي في عام 1992 “لم أحصل على تدريب بأي طريقة ما، توفي والدي في سن مبكرة جدا، لذا كان نوعا من تولي الأمر بشكل مفاجئ، والقيام بأفضل عمل ممكن”.

وتابعت قائلة “إنها مسألة أن ينضج المرء على شيء اعتاد فعله وأن تقبل حقيقة أنك هنا وأن هذا هو مصيرك. إنها وظيفة مدى الحياة”.

وخلال 70 عاما جلست خلالها على العرش، تعرضت بريطانيا لتغييرات جذرية.

فقد أفسحت فترة الخمسينات المتقشفة التي أعقبت الحرب الطريق إلى فترة الستينات المضطربة، وقيادة مارغريت تاتشر محل الخلاف في الثمانينات، وحقبة حزب العمال الجديد التي تولى توني بلير الحكم فيها على مدى ثلاث فترات، ثم العودة إلى التقشف الاقتصادي وجائحة كوفيد - 19.

تعاقبت على البلاد حكومات من حزبي العمال والمحافظين وغيرت الحركة النسوية السلوك تجاه النساء وأصبحت بريطانيا مجتمعا متعدد الأعراق أكثر عالمية.

كانت إليزابيث جالسة على العرش خلال معظم فترات الحرب الباردة بعد وفاة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين. وخلال فترة حكمها، تعاقب 14 رئيسا على حكم الولايات المتحدة، من هاري إس ترومان إلى جو بايدن.

كشف تصويت بريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 عن انقسامات عميقة في المجتمع البريطاني، بينما استمر القوميون في الضغط لإجراء استفتاء جديد على استقلال أسكتلندا كان من الممكن أن يؤدي إلى تمزيق المملكة المتحدة.

وقالت الملكة قبل استفتاء عام 2014 بشأن انفصال أسكتلندا، فيما بدا أنه كان رسالة إلى السياسيين مفادها أن الأسكتلنديين صوتوا لصالح البقاء في المملكة المتحدة “بينما نبحث عن إجابات جديدة في العصر الحديث، أنا شخصيا أفضل الوصفات المجربة والمختبرة، مثل التحدث بشكل جيد عن بعضنا البعض واحترام وجهات النظر المختلفة والالتقاء معا للبحث عن أرضية مشتركة وألا تغيب عن نظرنا الصورة الأكبر”.

وتطورت بريطانيا بمرور الوقت إلى مجتمع يسوده قدر أكبر من المساواة إذ تعين على الطبقة الحاكمة إفساح المجال أمام طبقة وسطى مزدهرة ولم يعد يهيمن الأرستقراطيون على الجامعات الكبرى وخسر أغلب أقرانهم بالوراثة مقاعدهم في مجلس اللوردات.

اعتمدت إليزابيث بشدة في البداية على دائرة المستشارين القديمة لوالدها، لكنها استعانت تدريجيا بالمزيد من الدبلوماسيين ومديري الشركات التنفيذيين في الديوان الملكي حيث سعت هي وزوجها فيليب إلى تحديث الملكية.

الملكة حاولت تجاوز الحواجز الطبقية ونالت احترام الجمهوريين المتعصبين وكانت تجسيدا لبريطانيا في الكثير من دول العالم

وقال رئيس الوزراء السابق جون ميجور في ظل الاحتفالات بعيد ميلادها التسعين “إنها ذكية ورحيمة ولديها قدر كبير من البصيرة ومميزات تقليدية تربطها بالبريطانيين”.

وتابع “إذا كنت تجهز شخصا ما ليكون ملكا هنا في بريطانيا، أعتقد أنك ستجهز شخصا مثل إليزابيث الثانية بالضبط”.

وردت الملكة على الانتقادات التي أثيرت في عام 1992 بشأن ثروة العائلة المالكة بأن عرضت دفع ضريبة الدخل وخفض عدد أفراد عائلتها الذين يتقاضون رواتب من الدولة.

لكن السنوات التي قضتها جالسة على العرش كانت في الكثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن المضي قدما بسلاسة.

استغرقت وقتا طويلا في الفترة الأولى من حكمها في توديع الإمبراطورية البريطانية التي أسسها أسلافها، من كينيا إلى هونغ كونغ. وكانت بربادوس أحدث دولة تتخلى عن التاج البريطاني في نوفمبر 2021. ومع ذلك، ظلت ملكة على 15 دولة ورئيسة الكومنولث.

ظل زواجها من فيليب، وهو أمير يوناني تزوجته في سن 21 عاما، مستمرا لمدة 73 عاما حتى وفاته في أبريل 2021، لكن شقيقتها وابنتها واثنين من أبنائها لم يحالفهم الحظ في الحب.

وصفت إليزابيث في عام 1992، الذكرى الأربعين لتوليها العرش، بأنها كانت “سنة فظيعة” بعدما فشل زواج ثلاثة من أبنائها الأربعة واندلع حريق في مقر إقامتها بقلعة وندسور.

وتسببت وفاة الأميرة ديانا، مطلقة الأمير تشارلز الابن الأكبر لإليزابيث، في عام 1997 في إلحاق المزيد من الضرر بمكانة الأسرة.

كانت هذه هي المناسبة الوحيدة خلال فترة حكمها التي أدت إلى إثارة اقتراح جاد بأن أيام النظام الملكي قد تكون معدودة. وسجل فيلم “الملكة”، الحائز على جائزة الأوسكار في عام 2006، هذه الفترة التي تم تصوير إليزابيث فيها على أنها جادة ولكن أسيء فهمها.

لكن بينما كان أبناؤها وأفراد العائلة المالكة الآخرون يتصدرون أحيانا عناوين الصحف الشعبية بسبب مشاكلهم الزوجية وتصرفاتهم الطائشة في العلن، ظل سلوك إليزابيث فوق مستوى الشبهات.

قال البروفيسور فيرنون بوجدانور، الخبير في التاريخ الدستوري البريطاني “ليس الأمر أنها لم تخطئ أبدا، إنه أكثر إيجابية من ذلك، إنها تفهم الشعب البريطاني”.

كان النقد الرئيسي الموجه إليها هو أنها كانت شديدة الوقار وبعيدة عن الأنظار.

قال منتقدون إن المرة الوحيدة التي أظهرت فيها عاطفة حقيقية علنا كانت عندما ودع أفراد العائلة المالكة اليخت الرائع بريتانيا بالدموع، بعد شهور من رد فعلها الرزين على وفاة ديانا.

لكن وفقا لأولئك الذين عملوا معها عن قرب، لم تكن في السر هي الشخصية العامة التي يراها معظم الناس، لكنها كانت صاحبة بصيرة ومرحة وتعي تماما مزاج الأمة.

وفي السنوات العشرين الماضية، وبدعم من عملية إعلامية أكثر احترافا وتطورا، كان لا يزال هناك أبهة حول الملكة وعائلتها لكن الشكليات تراجعت.

شارك الملايين في الاحتفالات بمناسبة بمرور 50 و60 و70 عاما على جلوسها على العرش، في حين أصبح دورها في فيلم ساخر لجيمس بوند أبرز ما ركز عليه حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في لندن عام 2012.

وذكرت تقارير أن الملكة كانت تلقي النكات مع زعماء العالم وتتعرف بسهولة على رؤساء حكومات الكومنولث الذين خدموا لفترة طويلة وتستمتع بالمراهنة على خيول السباق. وكانت تلك السباقات تمثل لها شغفا لا ينقطع.

كما أنها كانت مصحوبة في معظم فترات حكمها بكلاب من فصيلة كورجي.

وقال ماثيو دينيسون، مؤلف سيرة إليزابيث الذاتية “ما نعرفه بالفعل عن الملكة ضئيل للغاية… نحن نعلم أنها تستمتع بالسباقات. نعلم أنها تحب الكلاب الكورجي. نعلم أنها تفضل البطانيات والأغطية على الألحفة. لكن نحن لا نعرف عنها شيئا تقريبا غير ذلك”.

وتعلمت الملكة خلال الحرب العالمية الثانية قيادة وإصلاح السيارات أثناء أدائها الخدمة بالوحدة النسائية بالجيش البريطاني. وتم توثيق حبها للخروج والحيوانات بشكل جيد.

باتت إليزابيث ملكة في عام 1952 وتوجت في الثاني من يونيو 1953 في مراسم بثها التلفزيون من وستمنستر أبي، لتصبح أول ملكة منذ الملكة فيكتوريا والملكة الأربعين في تسلسل ملكي يعود أصله إلى وليام الفاتح في 1066.

في سبتمبر 2015، تجاوزت مدة فيكتوريا لتصبح أطول ملكة بقاء في حكم في البلاد على الإطلاق، وهو إنجاز قالت إنها لم تكن تصبو إليه أبدا.

جلست على العرش عندما كانت في نفس عمر إليزابيث الأولى، لكن حين رأت إليزابيث الأولى أن بلادها تتمتع بمكانة مهمة كدولة تجارية في القرن السادس عشر، ارتبط اسمها بتراجع بريطانيا عن موقعها كدولة رائدة في مجالي الصناعة والتكنولوجيا على مستوى العالم.

مع تحول مكانة بريطانيا، جاءت الملكة لتقف من أجل الوحدة وكان الترف المحيط بأسرتها من خلال العربات الذهبية وحفلات الزفاف الملكية المذهلة مصدر فخر وطني للكثيرين.

كان زواج الأمير وليام في عام 2011 من كيت ميدلتون، وهي واحدة من عامة الشعب، دليلا على ذلك. وشاهد حفل الزفاف أكثر من مليون شخص احتشدوا في شوارع لندن وما يقدر بنحو ملياري شخص على مستوى العالم.

كما أدى قرار الأمير هاري، الأخ الأصغر لوليام، وزوجته الأميركية ميجان، الممثلة السابقة، بالتخلي عن أدوارهما الملكية، إلى حرمان المؤسسة من اثنين من أشهر الشخصيات العالمية، في حين ظلت اتهاماتهما للمؤسسة بالعنصرية قائمة.

تسببت الدعوى المدنية ضد الابن الثاني الأمير أندرو، التي دفع أموالا لتسويتها في الولايات المتحدة، في إلحاق الضرر بسمعة الأسرة. ولم يعترف أندرو بارتكاب أي أخطاء في القضية. ولم يُتهم بارتكاب مخالفات جنائية.

ظل زوجها إلى جانبها طوال فترة حكمها تقريبا. وينسب إليه الفضل في كونها “قوية ومستمرة”.

وقالت في فبراير عندما احتفلت بمرور 70 عاما على جلوسها على العرش “كنت محظوظة أن يكون الأمير فيليب لي شريكا مستعدا للقيام بدور الرفيق وتقديم التضحيات”.

أنجب الزوجان أربعة أطفال هم تشارلز في عام 1948 وآن في عام 1950 وأندرو في عام 1960 وإدوارد في عام 1964.

ولديها ثمانية أحفاد و12 من أبناء الأحفاد.

خلال معظم فترة حكمها، كانت غالبا ما تلتفت عنها الأنظار لتتحول إلى ثلاث نساء لامعات هن والدتها الشهيرة الملكة إليزابيث الأم وشقيقتها الصغرى مارغريت ثم الأميرة ديانا لاحقا.

لكن حزن الملكة على فقد والدتها وشقيقتها، اللتين توفيتا في غضون أسابيع من بعضهما البعض في عام 2002 الذي وافق اليوبيل الذهبي لجلوسها على العرش، ساعدها على ترسيخ مكانتها في المجتمع بلا منازع.

اشتملت حياتها العملية على آلاف الارتباطات الرسمية، التي تتراوح من القيام بجولات في المدارس والمستشفيات، إلى الاحتفالات الكبرى باستقبال زيارات الدولة والمناسبات الوطنية.

اشتهرت بارتداء ملابس ذات ألوان زاهية مع قبعة من نفس اللون في الحفلات الملكية للتأكد من أنها ستظهر بوضوح بين الحشود في “جولاتها” العديدة.

كما قامت بواجباتها الدينية بصفتها الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا بمنتهى الجد، قائلة في عام 2012 إن الكنيسة الوطنية “لا تحظى بالتقدير عادة”.

وسافرت أكثر من أي ملك سابق إذ قامت بما يزيد عن 250 زيارة خارجية إلى أكثر من 100 دولة. اشتهرت بقدرتها على التحمل وبدأت في تقليص الجدول الزمني المكثف للجولات الأجنبية فقط عندما أصبحت في الثمانينات من عمرها.

حتى في التسعينات من عمرها، كانت تقوم بارتباطاتها بانتظام. وفي إحدى هذه الفعاليات عندما كانت في الثالثة والتسعين من عمرها، أخبرت المسؤولين بأنها لا تزال قادرة على غرس شجرة في التربة. ومضى عامان آخران بعد ذلك قبل أن تحتاج إلى استخدام عصا للمشي في الأماكن العامة.

وعندما دخلت المستشفى في مارس 2013 للعلاج من أعراض التهاب المعدة والأمعاء، كانت هذه هي المرة الأولى التي تحتاج فيها إلى العلاج في المستشفى منذ عقد.

ولم تقض ليلة تالية في المستشفى حتى أكتوبر 2021، وواصلت بإصرار تناول وجبات خفيفة حتى بعد أن ثبتت إصابتها بفايروس كورونا في فبراير الماضي.

وظهرت أهميتها في بداية الجائحة عام 2020. ومع تنامي القلق في دولة تخضع لإغلاق صارم، لجأت الحكومة إلى الملكة لطمأنة الشعب في بث تلفزيوني. وعادة ما تلقي مثل هذه الخطابات في عيد الميلاد فقط.

وقلما تعرضت الملكة لمواقف تهدد أمنها. فذات مرة أطلق شاب بريطاني عيارات نارية فارغة بالقرب منها في عام 1981 وقد انزلق جوادها لكنها لم تصب بأذى.

وفي العام نفسه، حاول مراهق “مضطرب للغاية” اغتيال الملكة أثناء زيارتها لنيوزيلندا لكنه أخطأ التصويب ببندقيته.

وفي يوليو 1982، دخل عامل عاطل عن العمل يُدعى مايكل فاغان إلى غرفة نومها في قصر باكنغهام وتحدث بإيجاز إلى إليزابيث، التي كانت ترتدي ثياب النوم، قبل أن يقتاده حراس الأمن.

في عام 2012، قال رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون إن “فن التقدم هو الحفاظ على النظام وسط التغيير والتغيير وسط النظام ولا يضاهي الملكة أحد في ذلك… لم تغلق الباب أبدا في وجه المستقبل بل قادت الطريق عبره”.

وتحدثت أسرة الملكة والنخبة السياسية في بريطانيا عن إعجابهما بقدرتها على التكيف دون أن تفقد هيبة دورها.

وقد يعتمد نجاح النظام الملكي في المستقبل على مدى إعجاب البريطانيين بالشخص الذي سيجلس على العرش.

وقال روبرت لاسي، مؤلف السير الذاتية للملوك، الذي عمل مستشارا تاريخيا لصناع مسلسل (ذا كراون) أو “التاج” على نتفليكس “تبقى الملكية جيدة ما دام يؤدي الأشخاص هذه المهمة… عندما تنظر بالأساس إلى الهيكل والطريقة التي تدار بها البلاد، ترى جمهورية على رأسها حُلي رائع نتمتع به جميعا. ويمكننا دائما فك الحُلي في أي وقت نريده”.

ووضعت إليزابيث بنفسها هدفا لحياتها في سن مبكرة. فقد قالت في بث بمناسبة عيد ميلادها الحادي والعشرين “أعلن أمامكم جميعا… أن حياتي كلها سواء كانت طويلة أو قصيرة، ستكون مكرسة لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبراطورية العظيمة”.

يدشن اعتلاء الملك تشارلز الثالث المسن والذي لا يحظى بشعبية واسعة مثل الملكة إليزابيث الثانية، مرحلة حساسة للعائلة الملكية التي عرفت في عهد والدته كيف تتجاوز الأزمات.

في العام 1953 توجت إليزابيث الثانية ملكة في سن الخامسة عشرة في أجواء من الحماسة الوطنية في بلد كان في طور النهوض من صدمة الحرب العالمية الثانية.

وحافظت طوال حياتها على شعبية واسعة واحترام كبير. لكن يبدو أن الاستقبال الذي سيُخص به ابنها البكر سيكون مختلفا.

ويقول روبرت هايزل، أستاذ القانون الدستوري في “يونيفرسيتي كوليدج لندن”، إن تشارلز البالغ 73 عاما يعتلي العرش “وهو رجل مسن”.

ويوضح “سيكون من الصعب جدا عليه أن يكمل مسار الملكة. ستمر العائلة الملكية على الأرجح بمرحلة صعبة”.

ولد تشارلز في 1948 وتزوج من ديانا سبنسر في العام 1981 وأنجبا الأميرين وليام وهاري، إلا أن زواجهما واجه صعوبات كبيرة مع كشف الصحف عن خيانات متبادلة أدت إلى طلاقهما.

بعد وفاة ديانا المأسوية العام 1997 في حادث سير في باريس بعدما طاردها صائدو صور، تزوج تشارلز في العام 2005 من عشيقته السابقة كاميلا باركر بولز.

ولطالما عرف الملك الجديد بتصريحات تثير جدلا ووُجهت باستخفاف أحيانا في مسائل مثل الزراعة والهندسة المعمارية الحديثة التي لا يستهويها. وفيما بات كثيرون يشاطرونه اهتماماته البيئية، ينبغي عليه الآن أن يعتمد حيادا مطلقا، إذ إن كل كلمة تصدر عن الملك تخضع للتدقيق والتعليق الشديدين.

في العام 2018، قال عبر هيئة “بي.بي.سي” إنه يدرك أن عليه الامتناع عن اتخاذ مواقف “فأنا لست غبيا”.

ويرى هايزل أن احترام الملك الجديد لهذا الحياد “سيكون صعبا جدا”، خصوصا مع تطلعات اسكتلندا إلى الاستقلال مع المحافظة على النظام الملكي، مشددا في الوقت ذاته “على حس الخدمة العامة والواجب العام القوي جدا” الذي يتمتع به تشارلز.

يباشر تشارلز عهده بشعبية أدنى بكثير من شعبية والدته. فقد أظهر استطلاع للرأي أعده معهد يوغوف في 2021 أن بالكاد أيد ثلث الأشخاص المستطلعة أراؤهم فكرة أنه سيكون ملكا جيدا، في حين أن نسبة التأييد لوالدته كانت تزيد عن 70 في المئة.

ومن شأن ذلك تحفيز آمال أنصار إلغاء النظام الملكي وإحلال نظام جمهوري مكانه، وهي فكرة يدعمها 15 في المئة فقط من البريطانيين في السنوات الأخيرة.

ويقول غراهام سميث، المشرف على حركة “ريبابليك”، إن تشارلز “لا يتمتع بالهالة الكبيرة التي كانت تتمتع بها الملكة”.

ويرى روبرت هايزل أن تنحي تشارلز لصالح ابنه وليام المولود في 1982 ويحظى بشعبية كبيرة “احتمال يمكن تصوره”. وكانت الملكة نفسها ترفض التنحي.

ويواجه تشارلز تلك التحديات وهو في سن الثالثة والسبعين، حيث إنه أكبر ملك يتولى العرش في عائلة ملكية يعود حكمها إلى ألف عام، وبجانبه زوجته الثانية كاميلا، التي لا يزال الرأي العام منقسما بشأنها.

وبالنسبة للمعارضين، فإن الملك الجديد ضعيف ويحب التدخل في السياسة وغير مؤهل لهذا المنصب.

وسبق أن تعرض تشارلز للسخرية بسبب حديثه إلى النباتات وهوسه بالهندسة المعمارية والبيئة، وستظل سيرته مقترنة دائما بزواجه الأول والفاشل من الأميرة الراحلة ديانا.

لكن مؤيديه يقولون إن ذلك تشويه للعمل الجيد الذي يقوم به، وإنه يُساء فهمه دائما. كما أنه كان سابقا لعصره في مجالات مثل تغير المناخ.

كما يدافع عنه البعض بالقول إنه شخص رصين ودائما ما يهتم برفاه البريطانيين من جميع الطبقات والمجتمعات. كما ساعدت مؤسسته الخيرية أكثر من مليون شاب فقير وعاطل عن العمل منذ إطلاقها قبل ما يقرب من 50 عاما.

وقال تشارلز ذات مرة في فيلم وثائقي تلفزيوني “المشكلة هي أنك محصور دائما في موقف الخاسر. حتى لو لم تفعل شيئا على الإطلاق…

فسوف يشتكون من ذلك. إذا حاولت وتعثرت خلال محاولتك فعل شيء للمساعدة، فسوف يشتكون أيضا”.

وطوال حياته، كان تشارلز محاصرا في نظام ملكي يسعى لتحديث نفسه ويحاول التكيف في مجتمع سريع التغير وقائم على المساواة، مع الحفاظ على التقاليد التي تمنح المؤسسة الهالة المحيطة بها.

ويمكن بسهولة رؤية هذا التوتر من خلال حياة ابنيه. فالأكبر وليام (40 عاما)، والذي أصبح الآن ولي العهد، يعيش حياة مقيدة بالواجبات التقليدية، ويخصص كثيرا من وقته للأعمال الخيرية والظهور بالمراسم العسكرية.

أما الابن الأصغر هاري (37 عاما) فيقيم في لوس أنجلس مع زوجته الممثلة الأميركية السابقة ميجان وطفليه، متخذا نمطا جديدا لحياته يتناسب مع هوليوود أكثر من قصر بكنغهام.

رغم كل ما ذكر، يرى غراهام سميث أن تشارلز “لن يستسلم”.

وفي مواجهة الانتقادات المتعاظمة حول نمط حياة العائلة الملكية، يرى خبراء بشؤون العائلة الملكية أن تشارلز يرغب في خفض الأفراد النشطين، الذين يتلقون أموالا من التاج الملكي ويكرسون وقتهم لالتزامات رسمية. ويبلغ عددهم اليوم نحو عشرة.

وقد بدأ هذا التوجه يتبلور مع استبعاد الأمير أندرو شقيق تشارلز، الذي تلطخت سمعته بسبب صداقته مع الخبير المالي الأميركي الراحل جيفري ابستين، المتهم بالاتجار بقصر، ومن ثم انتقال ابنه الأمير هاري إلى كاليفورنيا.

ويرى روبرت هايزل أن أهمية الاستمرار على هذا النهج ليس ماليا فحسب، بل أيضا لتجنب حصول “تجاوزات” خصوصا.

ويعود لتشارلز توزيع الألقاب، وسيختار على سبيل المثال أن ينقل من عدمه لقب أمير ويلز إلى ابنه وليام. وهو يحمل هذا اللقب منذ 1958.

ويقول مؤيدو تشارلز إن مواقف الملك الجديد تظهر أنه رجل جاد ويهتم حقيقة بشعبه.

وبالنسبة للبعض فإنه يواجه مهمة مستحيلة، بين اتهامه بالتدخل السياسي إذا أدلى بدلوه في القضايا الاجتماعية أو المجازفة بوصفه أميرا مدللا لا يكترث بالآخرين.

ومن بين أهم القضايا التي يهتم بها، وهي البيئة، يمكن لتشارلز الآن أن يشعر بالإنجاز بعدما استجاب قادة العالم لمطالبه بشأن ضرورة التصدي لأزمة تغير المناخ.

وقال في مقابلة تلفزيونية في عام 2021 حول تغير المناخ “لماذا تعتقدون أنني فعلت كل هذا طوال تلك السنوات؟ لأنني كنت أهتم بالجيل القادم وسأظل اهتم به دائما”.