صنعاء في قلب التحولات الجيوسياسية..
التصعيد العسكري بين الحوثيين وإسرائيل وأفق التسويات الإقليمية "قراءة"
"يبدو أن الزيارة الأخيرة للمبعوث الأممي إلى صنعاء تمثل تحولًا في التعامل مع الملف اليمني، خاصة في ظل التصعيد العسكري المتزايد والضغوط الاقتصادية والتحديات الإنسانية الكارثية."
المقدمة: منذ أحداث أكتوبر في غزة ولبنان وسوريا، دخلت منطقة الشرق الأوسط في مرحلة من التصعيد العنيف، الذي وضع الأسئلة الكبرى حول مستقبل الاستقرار الإقليمي في بؤرة الاهتمام. المحللون السياسيون لا يتوقفون عن طرح تساؤلات حول إمكانية وقف هذه الموجة أو أنها ستتسع لتشمل مناطق أخرى مثل اليمن والعراق. لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل نشهد فقط تصعيدًا مؤقتًا في الأزمة، أم أن المنطقة قد دخلت بالفعل في مرحلة جديدة من التحولات الجيوسياسية التي قد تفضي إلى تغييرات جذرية في بنية القوى والنزاعات الإقليمية؟
لنتوقف لحظة، ونترك الأفكار القديمة والتصورات المسبقة والتحيزات جانبًا، ونواجه الواقع الذي نعيشه الآن: لقد دخلنا مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، حيث تتغير قواعد اللعبة بشكل غير مسبوق. هذه التغيرات قد تكون نتيجة لعدة عوامل؛ بداية من تصاعد التوترات العسكرية بين إيران وحلفائها في المنطقة من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، وصولًا إلى انخراط دول إقليمية في صراعات بالوكالة تتخطى حدودها.
في هذا السياق، قد تكون الأزمة الحالية في غزة ولبنان مجرد حلقة في سلسلة طويلة من التوترات التي قد تتسارع وتنتقل إلى مناطق أخرى قابلة للاشتعال، مثل اليمن والعراق، فاليمن، على سبيل المثال، تصاعدت التوترات بشكل ملحوظ مع الهجمات الحوثية على أهداف إسرائيلية والأحداث العسكرية المستمرة التي تهدد أمن دول المنطقة. في العراق، الصراع بين الميليشيات المدعومة من إيران والقوات الأمريكية يمكن أن يشهد تصعيدًا أكبر قد يجر البلاد إلى فوضى أوسع.
لكن ما يميز هذه المرحلة هو الطابع العالمي للتغيرات الجيوسياسية. هناك تحولات في موازين القوى العالمية تخلق ظروفًا جديدة تؤثر على الصراعات في الشرق الأوسط. الصعود المتسارع للنفوذ الصيني، والتحولات في السياسة الخارجية الروسية، وأثر الحرب الروسية الأوكرانية على العلاقة بين القوى الغربية والدول الإقليمية، كل هذه العوامل تساهم في إعادة تشكيل الاستراتيجيات الدولية والإقليمية.
علاوة على ذلك، لا يمكن تجاهل تأثير التكنولوجيا على النزاعات الحالية. فالمستقبل يلوح مع استخدام الطائرات المسيّرة، والهجمات السيبرانية، والتقنيات الحديثة في الحروب. في هذا السياق، الصراعات لم تعد حكرًا على الجنود والمقاتلين في الجبهات الأمامية، بل أصبحت تشتمل على مجالات جديدة تهدد البنية التحتية والسيادة الرقمية للدول.
إذا لم نفهم هذا التغيير، فسنكون على الجانب الخطأ من التاريخ. فلقد دخلنا بالفعل في مرحلة جيوسياسية جديدة، حيث كل شيء قابل للتغيير، بدءًا من التحالفات الدولية وصولًا إلى تكتيكات الحرب التي يتم تبنيها. الفهم الصحيح لهذه التغيرات سيمكن الدول الفاعلة من التكيف مع هذه الديناميكيات الجديدة، ويمنحها الفرصة للحفاظ على استقرارها وتعزيز مصالحها.
أولا: لمحة عن الصراع في اليمن
يعود الصراع في اليمن إلى جذور تاريخية معقدة، حيث بدأ الانقسام التقليدي بين شمال اليمن وجنوبه قبل توحيدهما في عام 1990. وعلى الرغم من الوحدة، استمرت التوترات السياسية بين النخب في الشمال والجنوب. تفاقمت الأوضاع بعد ثورة 2011 التي أطاحت بالرئيس علي عبد الله صالح، لتؤدي إلى صعود عبد ربه منصور هادي للرئاسة. في عام 2014، استغل الحوثيون (أنصار الله) حالة الاضطراب السياسي وتمكنوا من السيطرة على العاصمة صنعاء، مما دفع الحكومة الشرعية إلى طلب تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية. أخذ الصراع أبعادًا إقليمية مع تدخل السعودية والإمارات لدعم الحكومة الشرعية، مقابل دعم إيران للحوثيين، لتصبح اليمن ساحة لصراع دولي وإقليمي ألقى بظلاله على الوضع الإنساني المتدهور في البلاد.
وقد شهدت المنطقة تحولًا جيوسياسيًا مفاجئًا نتيجة تزامن تراجع قوة المحور الروسي-الإيراني، بما في ذلك نظام الأسد وحزب الله، مع التغيرات السياسية في الولايات المتحدة وزيادة العدوانية الإسرائيلية. هذا الفراغ الاستراتيجي أتاح للمعارضة السورية فرصة نادرة لاستعادة الزخم، حيث تمكنت خلال 11 يومًا فقط من ملء هذا الفراغ وتحقيق تغييرات ميدانية ملحوظة، ما قد يعيد رسم خارطة النفوذ في سوريا والمنطقة بأكملها. وفي المقابل، وقفت المعارضة اليمنية متفرجة على التدخلات الخارجية المباشرة، دون أن تتحرك أو تقدم حتى التهيئة الأولية لأي تحرك سياسي أو ميداني يغير من واقعها. هذا الجمود يعكس عجزًا استراتيجيًا لدى المعارضة اليمنية عن استثمار الفرص أو التعامل مع الديناميكيات الجديدة، ما أدى إلى بقائها خارج دائرة التأثير، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جذرية قد تكون فرصتها الوحيدة لإعادة ترتيب المشهد السياسي والميداني لصالحها.
ثانيا: التدخل الإسرائيلي المباشر
شهدت صنعاء خلال الأسبوع الأول من عام 2025 تصعيدًا عسكريًا ملحوظًا، حيث استهدفت إسرائيل مواقع استراتيجية في صنعاء والحديدة، بينما أعلنت جماعة الحوثي استهداف حاملة طائرات أمريكية شمال البحر الأحمر. تزامن ذلك مع اشتداد المواجهات الداخلية، خاصة في البيضاء، مما أسفر عن خسائر بشرية. كما شهدت المناطق الجنوبية تحركات سياسية لتعزيز مطالب استعادة دولة الجنوب والذي تمثل في نزول الفريق السياسي الى كافة مدن الجنوب المحررة. وفي ظل هذه التطورات، تصاعدت المخاوف من تصعيد أوسع في المنطقة، وسط تقارير عن نية إسرائيل شن عمليات عسكرية إضافية في اليمن.
وفي 10 يناير 2025، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن تنفيذ الجيش الإسرائيلي هجمات على مواقع استراتيجية تابعة لجماعة الحوثيين في اليمن، مؤكدًا أن هذه العمليات تُعد رسالة واضحة لزعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، بأن إسرائيل لن تتهاون مع أي تهديد لأمنها. وأشار كاتس إلى أن الجيش سيواصل ملاحقة قادة الحوثيين وتدمير بنيتهم التحتية في أي مكان.
كما شدد على أن إسرائيل لن تتردد في ضرب أي تهديد يهدد أمنها، بغض النظر عن المسافة، مؤكدًا أن هذه العمليات تأتي في إطار الحفاظ على أمن المواطنين الإسرائيليين ومصالح الدولة. وتأتي هذه التصريحات في ظل تصاعد التوترات بين إسرائيل وجماعة الحوثيين، التي كثفت من هجماتها ضد إسرائيل منذ بدء الحرب في قطاع غزة في أكتوبر 2023.
يواجه المشهد اليمني تعقيدًا كبيرًا في ظل العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل مؤخرًا، حيث تركزت الضربات على استهداف البنية التحتية الحيوية، مثل ميناء الحديدة، دون تحقيق تأثير عسكري مباشر على الحوثيين. يعود ذلك إلى نقص المعلومات الاستخبارية التي يمكن أن تتيح ضربات دقيقة، كما حدث في عمليات إسرائيل ضد لبنان وسوريا باستخدام التكنولوجيا والجاسوسية والتدخلات المباشرة. في المقابل، اتسمت الهجمات الأمريكية والبريطانية بردود فعل محدودة على استهداف الحوثيين للملاحة الدولية، بينما لم تحقق عمليات التحالف العربي، رغم امتدادها لعقد كامل، تغييرًا استراتيجيًا في ميزان القوى. هذه الديناميكيات تسلط الضوء على تعقيد الصراع وغياب أدوات فعالة لتحقيق انتصارات حاسمة، مما يفاقم الأزمة الإنسانية ويزيد من تعقيد التوترات الإقليمية.
وهذا ما أكدته الإحاطة الأخيرة للمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، هانز غروندبرغ، أمام مجلس الأمن، حيث أكد أن إنهاء الحرب في اليمن لا يزال خيارًا ممكنًا إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الأطراف المعنية. وأوضح أن اتخاذ الإجراءات اللازمة، وتقديم التنازلات، والتوجه بصدق نحو مصلحة اليمن وشعبه، هي مفاتيح رئيسية لتحقيق تقدم ملموس.
وأشار غروندبرغ إلى أن التركيز على احتياجات اليمنيين، ومعالجة الأزمات الإنسانية والاقتصادية والسياسية، يجب أن تكون الأولوية لجميع الأطراف إذا كانوا جادين في مساعيهم لتخفيف المعاناة. كما شدد على أهمية تقديم تنازلات متبادلة لضمان بناء مسار سياسي شامل ومستدام يضع حداً للصراع المستمر منذ سنوات.
وقد عكست إحاطته رسالة واضحة بأن السلام في اليمن ليس مستحيلاً، ولكنه يتطلب التزامًا جادًا من كافة الأطراف المعنية، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي. وأضاف أن إعادة الأمل في مستقبل يعمه السلام يتطلب توحيد الجهود والمضي قدمًا في خطوات عملية تنهي الجمود السياسي وتفتح المجال لحوار بناء يحقق تطلعات الشعب اليمني نحو الاستقرار والتنمية.
زيارته الأخيرة إلى صنعاء، بعد انقطاع طويل، تعكس نقطة تحول كبيرة في الأزمة اليمنية، حيث جاءت في سياق الجهود الدبلوماسية الدولية والإقليمية الرامية إلى إعادة توجيه مسار الصراع المعقد نحو حلول أكثر استدامة. هذه الزيارة، التي حملت دلالات سياسية واستراتيجية، تمثل تغيرًا في التعامل مع الملف اليمني، خاصة في ظل التصعيد العسكري المتزايد والضغوط الاقتصادية التي أثقلت كاهل البلاد، بالإضافة إلى التحديات الإنسانية الكارثية التي خلّفها النزاع.
من الجانب السياسي، تشير الزيارة إلى وجود مبادرات جديدة تهدف إلى تعزيز الحوار بين الأطراف المختلفة، وربما بناء توافقات تساهم في التوصل إلى صيغة سياسية مقبولة لإنهاء الصراع. كما أنها قد تكون جزءًا من مساعي إعادة بناء الثقة بين الفصائل المتناحرة وتحقيق تقارب بين المواقف المتباينة.
على الصعيد العسكري، يبدو أن الزيارة تأتي في وقت حساس، حيث التصعيد العسكري في اليمن بلغ مستويات مقلقة، مع تدخلات إقليمية ودولية واضحة. قد تعكس هذه التحركات الدبلوماسية محاولات لاحتواء الأوضاع الأمنية المتدهورة، والحد من التداعيات المدمرة التي تؤثر على أمن المنطقة بأسرها، خاصة بعد التوترات الأخيرة التي شملت استهدافات متبادلة بين الأطراف.
اقتصاديًا، فإن الأزمة اليمنية تعاني من تحديات جسيمة، بدءًا من انهيار العملة، وانعدام الخدمات الأساسية، وصولًا إلى تدهور البنية التحتية. قد تكون الزيارة خطوة نحو بحث سبل دعم الاقتصاد اليمني، سواء من خلال استئناف العمليات التجارية، أو إعادة فتح الموانئ والمطارات، أو تعزيز المساعدات الإنسانية.
أما من الناحية الإنسانية، فقد ساهم الصراع المستمر في خلق واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مع ارتفاع معدلات الفقر والجوع والنزوح. الزيارة قد تكون بداية لفتح قنوات دعم جديدة، والتخفيف من معاناة المدنيين الذين يدفعون الثمن الأكبر للنزاع.
في المجمل، تُشير هذه الزيارة إلى أن هناك جهودًا جديدة لتجاوز حالة الجمود التي اتسم بها الملف اليمني لفترة طويلة. وإذا ما تم البناء على هذه التحركات بشكل مدروس ومتوازن، فإنها قد تساهم في إعادة رسم خريطة الصراع اليمني، بما يدعم مسار السلام والتنمية في هذا البلد الذي عانى طويلاً من ويلات الحرب.
ثالثا: التصعيد الأخير مؤشرا لمرحلة عصيبة
بينما التصعيد الأخير في اليمن يمثل مؤشرًا خطيرًا على إمكانية انهيار الجهود الدبلوماسية المبذولة لتحقيق السلام، خاصة في ظل تصميم إسرائيل على تدمير القوة العسكرية التابعة لجماعة الحوثيين التي تعتبرها تهديدًا مباشرًا لأمنها. هذا التصعيد يهدد بتوسيع دائرة الصراع الإقليمي، ويعكس هشاشة المساعي السياسية التي تهدف إلى تحقيق هدنة مستدامة أو تسوية شاملة للأزمة اليمنية.
ويأتي إصرار إسرائيل على استهداف مواقع حوثية رئيسية في صنعاء ومحيطها ردًا على تهديدات الجماعة المتكررة، والتي تصاعدت مؤخرًا مع إعلانها استهداف حاملة طائرات أمريكية شمال البحر الأحمر. ومثل هذه التحركات العسكرية تعقّد المشهد السياسي والعسكري، حيث تضيف أبعادًا جديدة للصراع قد تجعل التوصل إلى حلول دبلوماسية أكثر صعوبة.
من جهة أخرى، فإن هذا التصعيد يزيد من معاناة المدنيين ويهدد بتفاقم الأوضاع الإنسانية المتدهورة بالفعل. كما يُضعف الثقة بين الأطراف المختلفة، ويزيد من احتمال انخراط أطراف دولية وإقليمية أخرى في الصراع، مما يجعل أي جهود لخفض التصعيد أكثر تعقيدًا.
إذا استمر هذا الوضع دون تدخل دولي فعال لاحتوائه، فإن التوترات المتصاعدة قد تؤدي إلى انهيار شامل للجهود الدبلوماسية، مما يطيل أمد الحرب في اليمن ويزيد من تداعياتها الكارثية على المستويين المحلي والإقليمي.
رابعا: مواقف القوى المحلية اليمنية من الحرب الأخيرة
في ظل التصعيد العسكري بين الحوثيين وإسرائيل، تتباين مواقف الأطراف اليمنية الأخرى، مثل الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، على النحو التالي:
- موقف الحكومة الشرعية:
أدانت الحكومة اليمنية تصرفات الحوثيين التي أدت إلى استهداف المنشآت الحيوية في مناطق سيطرتهم، معتبرةً أن هذه التصرفات تزيد من معاناة المواطنين وتستدعي ضربات عسكرية خارجية. معمر الإرياني، وزير الإعلام والثقافة والسياحة، أشار إلى أن الحوثيين يستدعون الضربات العسكرية دون اكتراث لمعاناة المواطنين، مؤكدًا أن المواطن اليمني يدفع الثمن الأكبر للحروب المدمرة التي أشعلتها الميليشيات الحوثية بدعم إيراني منذ انقلابها على الدولة في 2014.
- موقف المجلس الانتقالي الجنوبي:
لم يصدر المجلس الانتقالي الجنوبي بيانًا رسميًا واضحًا بشأن الصراع بين الحوثيين وإسرائيل. مع ذلك، تشير بعض التقارير إلى أن المجلس يسعى للحصول على اعتراف دولي، وربما ينظر إلى إسرائيل كجزء من هذا المسعى. وفقًا لتقرير من مؤسسة كارنيغي، يروج المجلس لنفسه للحصول على اعتراف الشرعية الدولية من بوابة إسرائيل، لكنه ولعدّة اعتبارات، لن يكون أكثر من حليف غير مباشر لإسرائيل.
بشكل عام، يبدو أن الحكومة الشرعية تركز على إدانة تصرفات الحوثيين التي تجلب التدخلات الخارجية وتزيد من معاناة الشعب اليمني، بينما يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تعزيز موقعه السياسي والدولي، مع عدم اتخاذ موقف علني واضح بشأن الصراع بين الحوثيين وإسرائيل.
مواقف القبائل والمجتمع المدني من الحرب في اليمن
لعبت القبائل اليمنية دورًا محوريًا في تشكيل مسار الحرب الحوثية، حيث انقسمت مواقفها بين التأييد والمعارضة، بناءً على ولاءاتها التاريخية ومصالحها القبلية. فبعض القبائل رأت في الحوثيين حليفًا محتملًا لتحقيق توازن قوى مع النظام المركزي، بينما انحازت أخرى إلى الدولة أو القوى المناوئة للحوثيين حفاظًا على استقرار مناطقها أو رفضًا للأيديولوجية الحوثية. في المقابل، كان المجتمع المدني يرزح تحت وطأة الحرب، محاولًا الحفاظ على ما تبقى من مظاهر الحياة اليومية. برزت مبادرات سلمية محدودة من قبل النخب الثقافية والمدنية، لكنها واجهت قمعًا شديدًا وسط تدهور الخدمات الأساسية. هذا التباين بين مواقف القبائل والمجتمع المدني يعكس تعقيد الصراع اليمني، حيث تداخلت المصالح القبلية مع تطلعات المجتمع المدني لتشكيل صورة متشابكة من الولاءات والتحديات.
خامسا: الأزمة الإنسانية في اليمن: معاناة في ظل الحرب
تشكل الأزمة الإنسانية في اليمن إحدى أكثر المآسي تعقيدًا في العالم، إذ تسببت الحرب المستمرة في انهيار شامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية. يعيش الملايين تحت خط الفقر، حيث يعاني أكثر من نصف السكان من انعدام الأمن الغذائي، ويواجه الأطفال بشكل خاص خطر سوء التغذية الحاد الذي يهدد حياتهم.
إلى جانب ذلك، أدى انهيار النظام الصحي إلى انتشار الأوبئة والأمراض مثل الكوليرا وحمى الضنك، وسط عجز المستشفيات عن توفير العناية اللازمة بسبب نقص الأدوية والمعدات الطبية. ومع استمرار النزوح الداخلي، يواجه النازحون أوضاعًا صعبة في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة.
الأزمة الإنسانية في اليمن ليست مجرد نتيجة مباشرة للحرب، بل تفاقمت بفعل الحصار الاقتصادي، وغياب الحلول السياسية المستدامة، وضعف استجابة المجتمع الدولي، مما جعل معاناة الشعب اليمني مستمرة بلا أفق واضح للخلاص.
سادسا: سيناريو المرحلة المقبلة
يبدو أن الوضع يبدو أكثر تعقيدًا نظرا لما يمر به المشهد الإقليمي والدولي المرتبط بالحرب في غزة والتوترات في المنطقة. هناك نقاط رئيسية تحتاج إلى تحليل:
1- الولايات المتحدة وبريطانيا لهما دور مركزي في دعم التحالفات الإقليمية، سواء من خلال الدعم العسكري أو السياسي. الموقف الأمريكي، خاصة في ظل إدارة ترامب، قد يكون حاسمًا في تحديد اتجاه الصراع.
2- الحوثيون يتعاملون مع الحرب في غزة كجزء من نهجهم الإقليمي، ويشترطون إيقاف الحرب كجزء من شروطهم. هذا الشرط يعكس محاولة لربط القضية الفلسطينية بالقضايا الإقليمية الأخرى.
3- نتنياهو، الذي يواجه ضغطًا داخليًا وخارجيًا، لا يريد أن يظهر بمظهر الفاشل. في الوقت نفسه، فإن استمرار القصف الجوي يضع عبئًا إضافيًا على إسرائيل، وهو ما قد يدفعها للبحث عن مخرج سياسي يدعم صورتها دون التنازل عن أهدافها الأمنية.
4- استمرار الحرب يعتمد على مدى قدرة الأطراف الدولية والإقليمية على تحقيق توازنات جديدة. أي اتفاق لوقف إطلاق النار سيحتاج إلى توافق دولي وإقليمي يأخذ في الاعتبار مطالب الأطراف كافة.
سابعا: احتمالات المستقبل:
- إذا استمرت الأطراف في تعنتها، فإن الصراع سيستمر مع تأثيرات إنسانية وسياسية كبيرة.
- قد يتم التوصل إلى اتفاق مؤقت يلبي جزءًا من مطالب الأطراف.
- قد تؤدي الجهود الدبلوماسية إلى إجبار الأطراف على وقف القتال، خاصة إذا مارست القوى الكبرى ضغوطًا.
سابعا: المقترحات والحلول
1. يجب دعوة الأمم المتحدة والأطراف الإقليمية مثل سلطنة عمان والاتحاد الأوروبي للوساطة بين الحوثيين وإسرائيل، والعمل على بدء محادثات غير مباشرة لخفض التصعيد وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار.
2. يتعين على جميع الأطراف إعلان وقف إطلاق نار فوري تحت إشراف دولي، مع نشر مراقبين من الأمم المتحدة للتأكد من الالتزام بالهدنة وضمان عدم التصعيد.
3. ضرورة تقليص الدعم الإيراني للحوثيين وضمان التزام إسرائيل بعدم تنفيذ عمليات عسكرية جديدة في اليمن، مع تفعيل ضغوط دولية على الأطراف لتخفيف تدخلاتها الإقليمية.
4. إطلاق مبادرات إنسانية عاجلة لتقديم المساعدات للمدنيين المتضررين من الصراع، وضمان وصول المساعدات إلى المناطق المتأثرة بالحرب.
5. استئناف الحوار السياسي الشامل بين جميع الأطراف اليمنية، وفي مقدمتهم المجلس الانتقالي الجنوبي بما في ذلك الحوثيين، ضمن إطار يتناول مستقبل اليمن وعلاقاته الإقليمية، تحت إشراف الأمم المتحدة.