دافع عن المهمشين وأحدث زلزالًا في الفاتيكان..
رحيل البابا فرنسيس: حبرية تاريخية بين الإصلاحات الجريئة والشعبية الجارفة
بعد معاناة طويلة مع التهاب رئوي حاد، وظهوره الأخير الضعيف لكن الباسم في باحة القديس بطرس بعيد القيامة، ترك أول بابا يسوعي وأميركي جنوبي إرثًا غنيًا من الإصلاحات الجريئة والدفاع عن المهاجرين والبيئة والعدالة الاجتماعية.

وداعًا فرنسيس: العالم يترقب خليفة بابا الإصلاحات الجريئة
غيّب الموت البابا فرنسيس، الزعيم الروحي لـ1.4 مليار كاثوليكي حول العالم، عن عمر 88 عامًا، يوم اثنين الفصح، بعد معاناة صحية طويلة. جاء الإعلان عن وفاته في الساعة 07:35 صباحًا، عبر بيان رسمي نشره الفاتيكان على قناته بتطبيق "تلغرام"، حيث قال الكاردينال كيفن فاريل: "عاد أسقف روما فرنسيس إلى بيت الآب، بعد أن كرّس حياته لخدمة الرب وكنيسته".
معاناة صحية وإصرار على الخدمة
عانى البابا الأرجنتيني من التهاب رئوي حاد منذ فبراير 2025، مما استدعى نقله إلى مستشفى جيميلي في روما في حالة وصفت بـ"الحرجة". قضى 38 يومًا في المستشفى، وهي أطول مدة استشفاء خلال حبريته التي امتدت 12 عامًا. ورغم تحذيرات الأطباء وتدهور وضعه الصحي، بما في ذلك مشاكل في الورك والركبة، وإجراء عمليات جراحية سابقة، أصر البابا على مواصلة عمله المكثف. في الأحد السابق لوفاته، ظهر متعبًا في باحة القديس بطرس عبر سيارته "البابا موبيلي"، حيث تلا مساعده كلمته أمام الآلاف من المصلين بسبب عجزه عن الحديث.
لم تكن هذه الوعكة الأولى لخورخي بيرغوليو، الذي فقد جزءًا من رئته اليمنى في شبابه بسبب التهاب الجنبة الحاد. وفي 2023، خضع لعملية جراحية كبرى في الأمعاء، مما أجبره على إلغاء عدة ارتباطات في أشهر حبريته الأخيرة.
إرث حبرية تحدّت التقاليد
انتخب البابا فرنسيس في 13 مارس 2013، ليصبح أول بابا يسوعي وأول بابا من أمريكا الجنوبية. عُرف بمواقفه الجريئة ودعوته لإصلاحات جذرية داخل الكنيسة الكاثوليكية، مما أكسبه شعبية واسعة ومعارضة داخلية شرسة في آن واحد. دافع بلا هوادة عن المهاجرين، البيئة، والعدالة الاجتماعية، مع الحفاظ على عقيدة الكنيسة في قضايا مثل الإجهاض وعزوبية الكهنة. رسالته البيئية "كُن مسبّحًا" (Laudato si) الصادرة عام 2015، شكلت نقطة تحول في نقاشات الكنيسة حول البيئة.
من إصلاحاته المثيرة للجدل، وضع قيود على القداس اللاتيني التقليدي، والسماح بمباركة أزواج المثليين، وإلغاء السر البابوي في قضايا الاعتداءات الجنسية على الأطفال. ورغم إلزامه رجال الدين بالإبلاغ عن مثل هذه الحالات، اعتبرت جمعيات الضحايا خطواته غير كافية. كما سعى لتطهير مالية الفاتيكان وتعزيز دور النساء والعلمانيين في الكوريا الرومانية، مما أثار انتقادات المحافظين الذين اتهموه بالابتعاد عن التقاليد.
أسلوب حياة متواضع وشعبية عالمية
تميز البابا فرنسيس بأسلوبه القريب من الناس، حيث كان يتمنى للمؤمنين "شهية طيبة" في خطاباته الأسبوعية بساحة القديس بطرس. فضّل العيش في شقة متواضعة بدلاً من القصر الرسولي الفخم، مما اعتبره البعض تخفيفًا من هيبة منصب البابوية. كما اشتهر بحبه للموسيقى وكرة القدم، وجدول أعماله المزدحم الذي تضمن عشرة مواعيد يوميًا، بالإضافة إلى رحلات دولية مكثفة، مثل جولته التي استمرت 12 يومًا في جنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا عام 2023.
على الصعيد الدولي، أدان العنف بكل أشكاله، من الاتجار بالبشر إلى طرد المهاجرين، ودعا إلى السلام في أوكرانيا والشرق الأوسط. في فبراير 2025، أثار غضب البيت الأبيض بإدانته سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن طرد المهاجرين. كما تمسك بالحوار بين الأديان، خاصة مع الإسلام، معلنًا عن كنيسة "منفتحة على الجميع".
مراسم الحداد والخلافة
وفقًا لدستور الفاتيكان، يُعلن الحداد الرسمي لمدة تسعة أيام، وتُخصص مهلة 15 إلى 20 يومًا لعقد المجمع الذي ينتخب فيه الكرادلة البابا الجديد. اختار البابا فرنسيس نحو 80% من الكرادلة الناخبين، مما يعزز تأثيره على اختيار خليفته. يتولى الكاردينال كيفن فاريل، بصفته "كاميرلنغو الكنيسة الرومانية المقدسة"، إدارة الكرسي الرسولي مؤقتًا.
كشف البابا فرنسيس عام 2023 عن رغبته في الدفن بكنيسة سانتا ماريا ماجوري بدلاً من سرداب كنيسة القديس بطرس، في سابقة لم تشهدها الكنيسة منذ ثلاثة قرون. كما أصدر الفاتيكان طقوسًا مبسطة للجنازات البابوية، تستخدم تابوتًا بسيطًا من الخشب والزنك بدلاً من التوابيت الثلاثة التقليدية.
ردود فعل عالمية
بعد إعلان وفاته، تدفقت التعازي من زعماء العالم، بما في ذلك مصر، إيران، إسرائيل، فرنسا، إيطاليا، والاتحاد الأوروبي، مما يعكس التأثير العالمي للبابا فرنسيس. ورغم الحديث عن إمكانية تنحيه على غرار سلفه بنديكتوس السادس عشر، اختار البابا مواصلة مهامه حتى النهاية.
يترك البابا فرنسيس إرثًا معقدًا من الإصلاحات والمواقف الجريئة، حيث جمع بين التواضع والشجاعة في قيادة الكنيسة الكاثوليكية. رحيله يفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل الكنيسة وما إذا كان خليفته سيواصل نهجه الإصلاحي أم سيعود إلى التقاليد المحافظة. في النهاية، سيظل البابا فرنسيس رمزًا لكنيسة تسعى لتكون أقرب إلى الناس وأكثر انفتاحًا على العالم.