رؤية مستقبلية تجمع بين الاقتصاد والإنسانية والدبلوماسية..

عبدالله بن زايد يقود حراكاً نشطاً في الجمعية العامة… الإمارات قوة مؤثرة في معادلات العالم

العلاقات الإماراتية الأوروبية شهدت خلال السنوات الأخيرة نمواً لافتاً، خصوصاً في مجالات الطاقة المتجددة والأمن الغذائي والتجارة.

حضور إماراتي لافت في نيويورك: من التعاون المناخي إلى تعزيز العلاقات الأوروبية

دبي

تواصل الدبلوماسية الإماراتية إثبات مكانتها كقوة فاعلة ومؤثرة على الساحة الدولية، حيث سجلت حضوراً نشطاً ولافتاً خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في نيويورك. هذا الحضور لم يكن مجرد مشاركة بروتوكولية، بل تجلّى في سلسلة من اللقاءات الثنائية التي أجراها نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، مع وزراء خارجية ومسؤولين رفيعي المستوى من مختلف أنحاء العالم، وهو ما يعكس المكانة المتنامية التي تحظى بها الإمارات كدولة قادرة على الموازنة بين مصالحها الوطنية ومصالح شركائها الدوليين في آن واحد.

ففي أروقة الأمم المتحدة، التقى الشيخ عبدالله بن زايد وزراء من نيوزيلندا ولبنان، إلى جانب ممثلة الاتحاد الأوروبي العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس. اللقاءات لم تقتصر على تبادل المجاملات الدبلوماسية، بل تناولت قضايا إقليمية ودولية ملحّة، شملت تطورات الشرق الأوسط، تداعيات الأزمات الإنسانية في مناطق النزاع، إضافة إلى مناقشة آليات تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد والاستثمار والتعليم والطاقة. هذا التنوع في الملفات يوضح أن الإمارات باتت لاعباً دولياً لا ينحصر دوره في محيطه الإقليمي، بل يمتد ليشمل القضايا العالمية التي تهم المجتمع الدولي ككل.

النشاط الدبلوماسي المكثف الذي قاده الوفد الإماراتي في نيويورك يعكس بوضوح السياسة الخارجية التي تتبناها أبوظبي، والمبنية على الاتزان والاحترام المتبادل، والعمل في إطار القانون الدولي، وتغليب الحوار على الصدام. هذه السياسة، التي ترسخت خلال العقدين الماضيين، جعلت من الإمارات شريكاً موثوقاً لدى العديد من الدول الكبرى والمنظمات الدولية، ليس فقط بسبب قدرتها الاقتصادية، بل أيضاً بفضل منهجها العملي في التعامل مع القضايا المعقدة. وفي لقاءاته المتعددة، شدد الشيخ عبدالله بن زايد على التزام الإمارات بتعزيز علاقاتها مع الدول الصديقة، ودعم الجهود الدولية لمواجهة التحديات المشتركة، مشيراً إلى أن العمل متعدد الأطراف هو المدخل الأنجع لتحقيق الأمن والتنمية، وأن تحويل التحديات إلى فرص يتطلب تنسيقاً دولياً واسعاً وشراكات حقيقية تتجاوز الشعارات إلى الأفعال.

ومن اللافت أن الإمارات طرحت نفسها في هذه اللقاءات كدولة تنظر إلى المستقبل من خلال الاستثمار في مجالات حيوية تتعلق بالاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والعمل المناخي. هذه القطاعات باتت جزءاً أساسياً من أولويات السياسة الخارجية الإماراتية، لأنها تمثل أدوات القوة الناعمة الجديدة في عالم يتغير بسرعة. فعندما تطرح الإمارات مشاريع للطاقة المستدامة في أفريقيا، أو برامج تعليمية مبتكرة في آسيا، فإنها لا تعزز فقط صورتها الدولية، بل تبني أيضاً جسور تعاون طويلة الأمد تعزز نفوذها السياسي والاقتصادي في الوقت ذاته.

إحدى المحطات البارزة في نشاط الوفد الإماراتي كانت اللقاء الذي جمع الشيخ عبدالله بن زايد مع كايا كالاس، ممثلة الاتحاد الأوروبي العليا للسياسة الخارجية. اللقاء حمل دلالات عميقة، إذ أكد الطرفان أهمية تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات والاتحاد الأوروبي في ظل التحديات التي تواجه العالم، سواء كانت أمنية أو إنسانية أو بيئية. العلاقات الإماراتية الأوروبية شهدت خلال السنوات الأخيرة نمواً لافتاً، خصوصاً في مجالات الطاقة المتجددة والأمن الغذائي والتجارة. واليوم، ومع تصاعد الأزمات العالمية مثل التغير المناخي وأزمة سلاسل الإمداد، تبرز الإمارات كشريك أساسي للاتحاد الأوروبي في بناء منظومة تعاون أكثر شمولاً واستدامة.

ولم تقتصر اللقاءات على القنوات الرسمية التقليدية، بل شملت أيضاً شخصيات ومؤسسات من المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية. ففي خطوة تعكس الانفتاح الإماراتي على الشركاء غير الحكوميين، التقى الشيخ عبدالله بن زايد مؤسس منظمة "المطبخ المركزي العالمي"، الشيف والناشط الإنساني خوسيه أندريس، حيث جرى بحث فرص التعاون في مجالات الإغاثة والعمل الإنساني. مثل هذه اللقاءات توضح أن السياسة الخارجية الإماراتية لا تنحصر في الدبلوماسية الرسمية فحسب، بل تسعى إلى بناء شبكات أوسع تشمل الفاعلين غير الحكوميين، وهو ما يعزز صورة الإمارات كدولة مسؤولة وذات التزام إنساني عالمي.

هذا البعد الإنساني ليس جديداً على الدبلوماسية الإماراتية، فقد رسخت أبوظبي خلال العقدين الماضيين مكانتها كإحدى أكبر الدول المانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية، متجاوزة اعتبارات الجغرافيا والمصالح الضيقة. من دعمها لضحايا النزاعات في اليمن وسوريا، إلى مساهماتها في مواجهة الكوارث الطبيعية في باكستان وتركيا وأفريقيا، تبقى الإمارات حاضرة في كل الملفات الإنسانية الكبرى. اللقاء مع خوسيه أندريس يعكس هذه الروح، ويؤكد أن العمل الإنساني أصبح جزءاً أصيلاً من هوية الإمارات الخارجية، إلى جانب أبعادها الاقتصادية والسياسية.

وتؤكد اللقاءات التي عقدها الوفد الإماراتي على هامش اجتماعات الجمعية العامة أن الدولة باتت تمتلك شبكة علاقات خارجية متينة ومتنوعة تشمل مختلف القارات والمجالات. هذه الشبكة لا تقتصر على الشراكات الاقتصادية والتجارية فحسب، بل تمتد لتشمل التعاون العلمي والتكنولوجي، المبادرات المناخية، والتنسيق الأمني والدبلوماسي. ومن خلال هذه الشبكة، تسعى الإمارات إلى ترسيخ موقعها كقوة متوسطة قادرة على لعب دور محوري في النظام الدولي، خصوصاً في مرحلة تشهد تحولات كبرى في موازين القوى العالمية.

وقد شارك في هذه اللقاءات عدد من كبار المسؤولين الإماراتيين، من بينهم وزراء معنيون بالتعاون الدولي والتجارة الخارجية والبيئة والتغير المناخي، ما يعكس الطابع الشامل والمنهجي للدبلوماسية الإماراتية. هذه المنهجية، التي تقوم على تكامل الأبعاد الاقتصادية والعلمية والإنسانية مع السياسية والأمنية، تمنح السياسة الخارجية الإماراتية تميزاً خاصاً مقارنة بغيرها من دول المنطقة. فهي لا تكتفي بمواقف الخطابة في المحافل الدولية، بل تسعى إلى تقديم مبادرات عملية وتوقيع اتفاقيات ملموسة تعود بالنفع المتبادل على جميع الأطراف.

في المحصلة، يعكس الحضور الإماراتي النشط في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة التزام القيادة الإماراتية بنهج دبلوماسي يستند إلى الحوار، الاحترام المتبادل، والعمل المشترك في مواجهة التحديات الدولية. وفي عالم مضطرب يشهد أزمات سياسية واقتصادية ومناخية متلاحقة، تبدو الإمارات في موقع متقدم ضمن القوى الدبلوماسية التي يُحسب لها الحساب. فهي لا تمثل مجرد دولة صغيرة ذات موارد اقتصادية، بل باتت تُقدَّم اليوم كقوة متوسطة تمتلك رؤية واضحة لمستقبل النظام الدولي، ورغبة صادقة في أن تكون جزءاً من الحلول لا من الأزمات. هذه المكانة لم تأتِ من فراغ، بل كانت ثمرة لسياسة خارجية متوازنة، واستثمار ذكي في أدوات القوة الناعمة والصلبة على حد سواء، ووعي بأهمية أن تكون الدبلوماسية جسراً للتنمية والسلام في عالم يتوق إلى الاستقرار.