صراع إقليمي يفاقم أسوأ أزمة إنسانية في العالم..
اليمنيون عالقون بين حسابات إيران وإسرائيل... والمجتمع الدولي يكتفي بالتحذيرات
الحوثيين يزجون ببلد ضعيف ومنهك في صراع غير متكافئ مع قوة عسكرية متقدمة، ما يؤدي إلى دمار إضافي لا طائل منه، ولا يقدم للفلسطينيين أي مكسب عملي.

غارات اسرائيلية سابقة على اليمن

تعيش اليمن اليوم واحدة من أكثر مراحلها مأساوية، إذ تحولت من ساحة نزاع داخلي طويل إلى ساحة اختبار جديدة للتجاذبات الإقليمية والدولية، بعد أن وجدت نفسها في قلب صراع غير متكافئ بين إسرائيل وجماعة الحوثي. هذا التطور الخطير لا ينذر فقط بمزيد من المعاناة الإنسانية داخل البلد المنهك أصلًا، وإنما يعمّق جراحه، ويهدد بتقويض ما تبقى من بنى تحتية متداعية وخدمات متآكلة، كانت عاجزة أصلًا عن تلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة اليومية. في هذا السياق جاءت تحذيرات الهيئات الدولية والمنظمات الحقوقية لتدق ناقوس الخطر، مشيرة بوضوح إلى أن أي تصعيد جديد لن يكون ثمنه سياسيًا فقط، وإنما سيُدفع من دماء اليمنيين وأعمارهم، ومن مستقبل أجيالهم أيضًا. اللجنة الدولية للصليب الأحمر كانت من أوائل الأصوات التي خرجت ببيان صريح، أكدت فيه أن السكان المدنيين في اليمن المنهكين منذ سنوات الحرب، بدأوا يفقدون أحباءهم في موجة جديدة من العنف، ويعانون من التدهور المستمر للبنى التحتية. في بيانها شددت على أن اليمنيين بحاجة إلى هدنة حقيقية توقف دوامة التصعيد التي لا تنتهي، وأشارت إلى تقديم دعم عاجل للمرافق الطبية في صنعاء عبر مجموعات علاجية خاصة بالمصابين جراء الغارات، في خطوة إنسانية تعكس حجم الكارثة التي يتعرض لها المدنيون. البيان أعاد التذكير بمبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي الإنساني، وهو وجوب اتخاذ كافة الاحتياطات لتجنيب المدنيين والأعيان المدنية آثار العمليات العسكرية، لكن الواقع على الأرض يشير إلى عكس ذلك تمامًا.
في يوم واحد فقط، هزّت انفجارات ضخمة العاصمة صنعاء إثر سلسلة غارات إسرائيلية استهدفت مواقع متفرقة شملت منشآت مدنية، مخلفةً خسائر بشرية ومادية كبيرة. وزارة الصحة في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليًا أعلنت سقوط عشرات القتلى والجرحى، بينهم نساء وأطفال، فيما أظهرت الصور ومقاطع الفيديو المتداولة على منصات التواصل حجم الدمار الذي لحق بالمنازل في حي الرقاص، وحالة الفزع التي أصابت الأهالي نتيجة شدة الانفجارات. هذا المشهد المتكرر بات يعكس حجم التصعيد الإسرائيلي، الذي لجأ مؤخرًا إلى استخدام قوة نارية أكبر في الرد على الصواريخ والطائرات المسيرة الحوثية، ما أدى إلى مفاقمة الكارثة الإنسانية. لم تقتصر الأهداف الإسرائيلية على المنشآت العسكرية، بل طالت منشآت حيوية مدنية، من موانئ ومطارات ومحطات طاقة، في تكتيك يهدف إلى تعقيد مهمة الحوثيين في إدارة المناطق التي يسيطرون عليها، لكنه في الوقت نفسه يضاعف من معاناة السكان المدنيين الذين وجدوا أنفسهم ضحايا حرب لا يملكون فيها قرارًا ولا مصلحة مباشرة.
ميناء الحديدة كان من أبرز الأهداف التي طالتها الغارات، وهو شريان اقتصادي وإنساني مهم يعتمد عليه ملايين اليمنيين للحصول على الغذاء والدواء والسلع الأساسية. استهداف الميناء لم يضرب الحوثيين فحسب، بل ضرب الأمن الغذائي لليمنيين جميعًا. الأمر نفسه ينطبق على مطار صنعاء الدولي الذي تحوّل من منفذ محدود لحالات الإجلاء الطبي والرحلات الإنسانية إلى هدف عسكري متكرر، ما حرم آلاف المرضى من فرصة السفر لتلقي العلاج. كما استهدفت الغارات محطات الكهرباء، الأمر الذي أدخل مناطق واسعة في ظلام دامس، وزاد من أعباء الناس اليومية في بلد يعاني أساسًا من نقص الخدمات. هذه السياسة، التي تقوم على إنهاك البنية التحتية وإغراق السكان في مزيد من الأزمات، قد تحقق أهدافًا عسكرية آنية لإسرائيل، لكنها تترك خلفها كارثة إنسانية ستتطلب سنوات طويلة لمعالجتها.
في المقابل، يصر الحوثيون على تصوير استهدافهم لإسرائيل وخطوط الملاحة في البحر الأحمر كجزء من دعمهم للشعب الفلسطيني في غزة، الذي يواجه حربًا دموية تشنها إسرائيل. غير أن هذا التبرير لا يقنع شريحة واسعة من اليمنيين الذين يرون في سلوك الجماعة مجرد انعكاس لحسابات إيران الإقليمية، أكثر من كونه موقفًا مبدئيًا لنصرة فلسطين. هؤلاء المنتقدون يؤكدون أن الحوثيين يزجون ببلد ضعيف ومنهك في صراع غير متكافئ مع قوة عسكرية متقدمة، ما يؤدي إلى دمار إضافي لا طائل منه، ولا يقدم للفلسطينيين أي مكسب عملي. بالنسبة لهم، فإن ما يجري هو مقامرة بمصير اليمنيين الذين يدفعون وحدهم ثمن هذه السياسات، من دمائهم ومعيشتهم وأمنهم.
النتيجة الواضحة لهذا المسار هي المزيد من التدهور في الوضع الإنساني. اليمن الذي كان يُوصَف لسنوات بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، بات اليوم أمام فصل جديد أشد قتامة. نقص الغذاء والدواء، انهيار الخدمات الأساسية، غياب الكهرباء والماء النظيف، تفشي الأوبئة، كلها تحديات تضاعفت مع التصعيد العسكري الأخير. المدنيون الذين عانوا من الحرب الداخلية منذ 2015، أصبحوا الآن ضحايا حرب إقليمية تتجاوز حدود بلدهم. فبينما ينشغل الحوثيون بتوظيف خطاب “نصرة فلسطين” في إعلامهم، تزداد معاناة الناس الذين يفتقدون الأمن والغذاء والدواء. هذا التناقض يعكس الفجوة بين خطاب المقاومة وواقع الانهيار الإنساني، ويجعل التساؤلات حول جدوى التصعيد أكثر إلحاحًا.
المعادلة الأشد قسوة تكمن في أن كل غارة إسرائيلية لا تسفر فقط عن خسائر آنية في الأرواح والممتلكات، بل تترك أثرًا طويل الأمد على بنية اليمن الاقتصادية والاجتماعية. عندما يُدمَّر ميناء أو محطة كهرباء، فإن إعادة بنائهما تحتاج إلى سنوات في ظل الظروف الراهنة. وعندما يُقتل أو يُصاب عشرات المدنيين، فإن العائلات تفقد معيلين وأطفالاً، ويُضاف جرح جديد إلى ذاكرة بلد مثخن بالجراح. وحين تُستهدف المنشآت المدنية عمدًا، فإن الرسالة الموجهة إلى السكان هي أن حياتهم اليومية يمكن أن تتحول إلى ساحة حرب في أي لحظة، ما يزرع الخوف واليأس في نفوسهم.
المفارقة أن الحوثيين، الذين يسعون إلى إظهار إسرائيل كمنتهك للقانون الدولي الإنساني، يواجهون هم أيضًا اتهامات منظمات حقوقية باستخدام المدنيين دروعًا بشرية وتخزين أسلحة في مناطق آهلة بالسكان، وهو ما يعرض المدنيين لمزيد من المخاطر. بهذا المعنى، يجد اليمنيون أنفسهم عالقين بين مطرقة الغارات الإسرائيلية وسندان ممارسات الحوثيين، في مشهد تتقاسم فيه الأطراف المتحاربة المسؤولية عن معاناة المدنيين. القانون الدولي الإنساني يدعو إلى حماية هؤلاء، لكن الواقع يشهد بانتهاكه يوميًا من قبل كل الأطراف.
الوضع الحالي يفتح الباب أمام أسئلة جوهرية عن مآلات الصراع. هل يمكن أن يؤدي التصعيد إلى تغيير موازين القوى في المنطقة؟ أم أنه مجرد فصل إضافي في سلسلة الحروب بالوكالة التي تدفع ثمنها شعوب ضعيفة؟ وهل ستتمكن المنظمات الدولية من الضغط لفرض هدنة توقف هذه الدوامة، أم أن مصالح القوى الكبرى ستجعل من اليمن ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات؟ هذه الأسئلة تبقى معلقة، لكن المؤكد أن استمرار هذا النهج لن يجلب سوى المزيد من الدمار.
اليمن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى حماية مدنييه، وإلى مقاربة جديدة تُعطي الأولوية للإنسان لا للسلاح. فالمكاسب السياسية المؤقتة لا يمكن أن تبرر الأثمان الإنسانية الباهظة. وإذا كانت إسرائيل تبرر هجماتها بأنها رد على صواريخ الحوثيين، وإذا كان الحوثيون يبررون تصعيدهم بأنه نصرة لفلسطين، فإن الحقيقة الثابتة هي أن المدنيين اليمنيين وحدهم من يدفعون الثمن الأكبر. هذا الشعب الذي حُرم من الاستقرار لعقود، يجد نفسه اليوم رهينة لحسابات إقليمية معقدة، فيما العالم يكتفي بالبيانات والتحذيرات دون فعل حقيقي.
في النهاية، ما يجري ليس مجرد جولة عابرة من العنف، بل تهديد خطير لمستقبل اليمن كدولة ومجتمع. البنى التحتية التي تُدمَّر اليوم هي ما يحتاجه اليمن غدًا لإعادة البناء. الأرواح التي تُزهق هي عماد أي سلام ممكن. والمجتمع الذي يُستنزف بهذا الشكل لن يجد القوة الكافية للنهوض من جديد. لذلك فإن الصراع الحالي بين إسرائيل والحوثيين لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق الأوسع لأزمة اليمن، لأنه يزيدها تعقيدًا ويجعل الخروج منها أكثر صعوبة. وفي غياب إرادة دولية جادة لوقف النزيف، يبقى الأفق مفتوحًا على مزيد من الكوارث الإنسانية، فيما تبقى اليمن ساحة صراع مفتوحة يدفع أهلها ثمنًا فادحًا.