مدينة يمنية رهينة النفوذ..
إعادة إنتاج الفوضى في تعز.. كيف تتحول المحافظة إلى مسرح دائم للفساد والاغتيالات السياسية؟
"نفوذ شخصيات مثيرة للجدل مثل عبده فرحان "الدست" وشبكات مصالح مرتبطة بقيادات محلية وعسكرية أسهمت في إعادة إنتاج الفساد، من التعيينات إلى الصناديق الإيرادية"

تظاهرات في مدينة تعز اليمنية تندد بالعمليات الارهابية التي طالت مسؤولة بارزة - فيس بوك

تعيش محافظة تعز منذ سنوات طويلة في قلب معادلة معقدة بين أحلام استعادة الدولة اليمنية ومشاريع تقويضها، وبين شعارات محاربة الفساد وواقع إعادة إنتاجه بوجوه متكررة، وبين مطالب المجتمع بإنهاء حالة الفوضى الأمنية والسياسية وبين مصالح شبكات النفوذ التي تجد في هذه الفوضى بيئة ملائمة لاستمرار بقائها. في هذا السياق، تتكشف بين الحين والآخر وثائق أو تسريبات تحمل في مضمونها دلالات خطيرة على عمق الأزمة التي تعيشها المحافظة، ليس فقط باعتبارها ساحة مفتوحة للصراع العسكري، وإنما باعتبارها أيضًا مسرحًا لفساد ممنهج يتجاوز الأفراد إلى المنظومة بأكملها. آخر تلك التسريبات تمثل في وثيقة قديمة صادرة عن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، تضمنت صرف ملايين الريالات لمسؤولين محليين في تعز، بينهم محافظون ووكلاء وقيادات إدارية، على شكل مكافآت ضخمة دون أي مصوغ قانوني واضح. خطورة الأمر لا تكمن فقط في حجم الأموال المهدورة، وإنما في آلية إعادة تدوير ذات الوجوه التي تظهر أسماؤها في مثل هذه التسريبات، ومنحها مناصب جديدة بدلاً من إخضاعها للمساءلة والمحاسبة. ويكفي أن نشير إلى أن أحد وكلاء المحافظة الذين طالتهم تلك الوثائق، عُيّن مؤخرًا قائمًا بأعمال مدير صندوق النظافة والتحسين، وهو منصب بالغ الحساسية في مدينة غارقة أصلاً في أزماتها الخدمية والمعيشية، ما يضع علامات استفهام كبرى حول جدية الدولة في مواجهة الفساد من جهة، وحول منطق التعيينات الذي يحكم السلطة المحلية من جهة أخرى.
ولا يقف المشهد عند حدود الفساد الإداري أو المالي، بل يتجاوزه إلى مسارات أكثر خطورة تتعلق بتقويض العدالة وتسييس مسارات القضاء، وهو ما بدا واضحًا في التعامل مع جريمة اغتيال الدكتورة افتهان المشهري التي هزت الرأي العام داخل تعز وخارجها. فبحسب صور ومعلومات تداولها خبراء في الأدلة الجنائية، فإن المتهم الأول في الجريمة أصيب إصابة غير قاتلة في ساقه بعد تبادل إطلاق النار مع قوة أمنية، وكان على قيد الحياة، لكن رصاصة قاتلة أُطلقت على عنقه لاحقًا أنهت حياته في مشهد يوحي بوجود نية مبيتة لطمس معالم الجريمة وإغلاق الملف قبل الوصول إلى الحقائق الكاملة. ولم يقف الأمر هنا، بل رافقه تغييب التقرير الفني المتعلق بالمكالمات الهاتفية للشهيدة افتهان، والتي وثقت اتصالاتها خلال الأشهر السابقة لاغتيالها، وهي معلومات كان يمكن أن تكشف شبكة المتورطين الحقيقية. ورغم الإعلان الرسمي عن ضبط واحد وثلاثين متهمًا في غضون ستة أيام فقط، إلا أن الوقائع تشير إلى تجاهل بعض الأسماء النافذة التي وردت في تسريبات صوتية مرتبطة بالقضية، الأمر الذي يجعل مسار التحقيق عرضة للشبهات، ويضع الأجهزة الأمنية والقضائية في مواجهة مباشرة مع أسئلة الرأي العام حول نزاهتها وقدرتها على إحقاق العدالة.
هذه الممارسات تفتح الباب واسعًا أمام التساؤل عن السلوك العام للقادة الأمنيين والعسكريين في تعز، وعن طبيعة الشبكات التي تتحكم في القرارات السيادية داخل المحافظة. فاسم المدعو عبده فرحان، الملقب بـ "الدست"، يتكرر كثيرًا في هذا السياق، بوصفه أحد أبرز اللاعبين غير الرسميين في توجيه مسارات السلطة المحلية والعسكرية. الرجل رفض الامتثال لأوامر المحكمة الجزائية المتخصصة في عدن عام 2023، في قضية كان يفترض أن تمثل اختبارًا لجدية الدولة في إخضاع القيادات للمساءلة. لكن نفوذه ظل ممتدًا، فيما يواجه ابنه عزام اتهامات بارتكاب مخالفات جسيمة في تعز، إلى جانب تدخلات صهره المباشرة في قرارات أمنية حساسة، فضلاً عن علاقات شقيقه نجيب التي يربطها البعض بمسار الانقلاب الحوثي. ومن زاوية أخرى، لا تزال قضية اغتيال العميد عدنان الحمادي، أحد أبرز القادة العسكريين المناوئين للحوثيين، حاضرة بوصفها ملفًا لم يغلق بعد، مثلها مثل قضايا اغتيال أخرى طالت شخصيات أمنية وعسكرية، في سلسلة تبدو كأنها مصممة لتصفية كل من يشكل تهديدًا لتوازنات النفوذ داخل المحافظة.
وفي موازاة ذلك، يتكشف يومًا بعد آخر حجم الفساد المستشري في مفاصل الدولة المحلية، بدءًا من التعيينات التي تُحكم بمعايير الولاء السياسي لا الكفاءة المهنية، مرورًا بملف الاغتيالات الذي تحول إلى أداة لتصفية الحسابات، وصولاً إلى شبكات فساد الغاز التي تُدار برعاية قيادات عسكرية، وشبهات التلاعب التي تطال مشاريع خدمية ممولة من الخارج، كان يُفترض أن تخفف من معاناة السكان. مشاريع الطرق المتعثرة، الخدمات الأساسية الغائبة، التلاعب في المنح والمساعدات الإنسانية، بيع الأراضي الحكومية بأسعار بخسة، نهب الموازنات العامة، واستغلال النفوذ داخل المنظمات الدولية، كلها حلقات متشابكة في دائرة فساد لم تعد مجرد اتهامات بل واقعًا يعيشه المواطنون في تفاصيل حياتهم اليومية. ومن أبرز تلك الفضائح قضية صندوق النظافة والتحسين التي انفجرت مؤخرًا، حيث تكشفت معلومات عن استيلاء منظم على أموال الصندوق وتحويلها إلى جيوب نافذين، في وقت تغرق فيه شوارع تعز بالقمامة وتعجز السلطة عن توفير أبسط الخدمات البيئية.
إن هذا الواقع المأزوم لا يمكن فصله عن طبيعة الصراع السياسي والعسكري الدائر في تعز منذ اندلاع الحرب في اليمن. فالمدينة التي رفعت شعار المقاومة في وجه الحوثيين تحولت مع مرور الوقت إلى ساحة مفتوحة لصراعات متعددة الأبعاد، حيث تتداخل أجندات القوى السياسية مع مصالح القادة العسكريين وشبكات الفساد المالي والإداري. وإذا كانت المحافظة قد مثلت في مرحلة ما رمزًا لصمود الدولة أمام التمدد الحوثي، فإنها اليوم تقدم صورة مختلفة تمامًا، صورة محافظة منهكة من الداخل، يسودها انعدام الثقة بين المواطنين والسلطات، وتتصدر أخبار الاغتيالات والنهب والفضائح العناوين أكثر مما تتصدرها أخبار الانتصارات أو الإصلاحات. وفي قلب هذا المشهد، تبرز الأسئلة الكبرى التي تضع الجميع أمام مسؤولياتهم: أين موقع الدولة من كل ما يحدث؟ ولماذا يتم غض الطرف عن الفساد والاغتيالات؟ ومن هم المستفيدون الفعليون من استمرار الفوضى في تعز؟
لا شك أن استمرار هذه الوضعية يحمل انعكاسات خطيرة على مستقبل الدولة اليمنية ككل، وليس على تعز وحدها. فالمحافظة تمثل رمزًا سياسيًا ومركزًا سكانيًا كبيرًا، وأي انهيار في منظومتها الإدارية والأمنية ينعكس مباشرة على بنية الشرعية في الداخل والخارج. وإذا كانت الحرب قد وفرت مبررًا لفشل السلطة المحلية في تحقيق الاستقرار، فإن تراكم الفضائح والتسريبات والاغتيالات يكشف عن أزمة أعمق بكثير من مجرد ظرف حرب. نحن أمام أزمة شرعية ثقة، أزمة بنية دولة تعجز عن محاسبة مسؤوليها أو ضبط قادتها العسكريين، وأزمة مجتمع يدفع ثمن فساد النخبة مرتين: مرة بفقدان الخدمات والحقوق الأساسية، ومرة أخرى بفقدان الأمن والأمان. وفي الوقت الذي يسعى فيه اليمنيون إلى إعادة بناء دولتهم، تبدو تعز وكأنها نموذج معكوس، نموذج يثبت أن إعادة إنتاج الفساد والفوضى قد يسبق أي محاولة حقيقية للإصلاح.
يبقى السؤال المفتوح، وربما الأخطر، حول مآلات اشتعال محاور الصراع في تعز، في ظل استمرار الفوضى الأمنية والسياسية. هل نحن أمام مشهد سيقود إلى انفجار داخلي أكبر يعمق أزمات المحافظة، أم أن هناك من يدير الخيوط بذكاء ليبقي الوضع عند حد معين يضمن استمرار المصالح؟ إن علامات الاستفهام الكبرى التي تحيط بكل تفاصيل المشهد في تعز، من تسريبات الفساد إلى اغتيالات القيادات، ومن نفوذ شخصيات مثيرة للجدل إلى فضائح الصناديق الإيرادية، لا تترك مجالًا للشك في أن ثمة أطرافًا عديدة مستفيدة من إبقاء الوضع على ما هو عليه. والسؤال الأخير الذي يفرض نفسه: من هؤلاء المستفيدون، وما الثمن الذي سيدفعه أبناء تعز واليمن عمومًا إذا استمرت المحافظة رهينة لهذه الشبكات؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لكنها حتمًا ستكون مفتاح فهم ما إذا كانت تعز قادرة على أن تعود يومًا نموذجًا لمقاومة الدولة اليمنية، أم ستظل نموذجًا لانهيارها.