روى فيها كواليس الأيام الأولى لانهيار الدولة وصمود الشرعية..

رياض ياسين لـ«اليوم الثامن»: افتتحتُ وزارة الخارجية في عدن بلا حراسة.. كانت رسالة للعالم أن الدولة لم تسقط

«كنت يومها وحدي، بلا حراسة ولا مرافقة، لأنني أردت أن أقول للعالم إن الدولة ما تزال حاضرة، وإن عدن يمكن أن تكون العاصمة الفعلية للدولة اليمنية بعد أن سقطت صنعاء في أيدي الميليشيات الحوثية»؛ رياض ياسين وزير خارجية اليمن في العام 2015م

وزير خارجية اليمن رياض ياسين خلال تدشين عمل الوزارة من العاصمة في العام 2015م - أرشيف

باريس

في ربيع عام 2015، كانت اليمن تدخل أكثر فصولها مأساوية في التاريخ الحديث. العاصمة صنعاء قد سقطت بيد جماعة الحوثي، الدولة تفككت، والوزارات شُلَّت تمامًا، فيما كانت السفارات تتعامل مع فراغ سياسي ودبلوماسي غير مسبوق. في ذلك المشهد المظلم، ظهر اسم الدكتور رياض ياسين عبد الله – الطبيب الجراح ووزير الصحة – في قلب المعادلة السياسية الجديدة، حين وجد نفسه فجأة مسؤولًا عن حقيبتين: وزارة الصحة ووزارة الخارجية في آنٍ واحد، في زمن لم يعد فيه للروتين الإداري مكان، ولا للترف السياسي معنى.

لم يكن التعيين عاديًا. فقد جاء بعد أن هرب وزير الخارجية السابق عبد الله محمد الصايدي، الذي كان يشغل المنصب منذ 7 نوفمبر 2014 في حكومة خالد بحاح، وسبق له أن عمل مندوبًا لليمن لدى الأمم المتحدة. لكن الصايدي قدَّم استقالته في 22 يناير 2015، بعد انقلاب الحوثيين على السلطة، معلنًا عجزه عن العمل في ظل انقلابٍ عسكري شامل. عندها، قرر الرئيس عبدربه منصور هادي تعيين الدكتور رياض ياسين قائمًا بأعمال وزير الخارجية، في لحظةٍ لم يكن فيها أحد يجرؤ على تسلم ذلك الملف الشائك.

يقول ياسين في حديث خاص لـ«اليوم الثامن»: "تحملتُ ملف وزارة الخارجية في ظل ظروف استثنائية بكل المقاييس، وتحديات غير متوقعة في مواجهة عدو لا يعرف الرحمة ولا يمتلك أي عقلانية، هدفه الوحيد هو التدمير والسيطرة على السلطة مهما كانت العواقب."

كان تكليف ياسين بمثابة رهان على رجلٍ من خارج المنظومة السياسية التقليدية، لكنه يمتلك حسًّا وطنيًا نادرًا وشجاعة استثنائية في اتخاذ القرار. فبينما كان معظم الوزراء والمسؤولين يعيشون حالة من الارتباك أو يغادرون البلاد، قرر هو البقاء في الميدان.

يضيف قائلًا:"توليت المسؤولية بتكليف مباشر من الرئيس هادي بعد أن تهرب الوزير السابق وقال إن الأمر قد حُسم لصالح الحوثيين. كنت حينها وزيرًا للصحة أيضًا، وكنت في عدن قبل وصول الرئيس هادي إليها، وعملت على استقبال بعض الضيوف العرب والأجانب الذين جاءوا للقاء الرئيس. غادرت إلى الرياض قبل دخول الحوثيين إلى عدن ضمن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الرياض. أستطيع القول باختصار إن الحياة مواقف، ولولا مواقفنا الصلبة والصادقة في تلك الفترة لكان الحوثيون اليوم يطلقون صرختهم من قصر معاشيق."

وزارة الخارجية من تحت الأنقاض

كانت وزارة الخارجية أولى المؤسسات التي حاولت الحكومة الشرعية إحياءها من عدن بعد تحريرها، باعتبارها الواجهة السياسية للدولة اليمنية أمام العالم. فبينما كانت جبهات القتال تشتعل في الأطراف، كانت الحاجة ملحّة إلى من يُعيد للعالم الثقة بأن هناك “دولة يمنية” ما زالت قادرة على التحدث باسم نفسها.

يروي ياسين:"افتتاح وزارة الخارجية في عدن كان قرارًا وطنيًا أكثر من كونه إداريًا. كانت الإمكانيات معدومة، والحالة الأمنية شبه منعدمة، وظهورنا مكشوفة بلا تأمين أو حراسة، لكننا كنا مؤمنين بأن الله معنا، وبأن أبناء عدن لن يسمحوا بسقوط دولتهم."

ذلك اليوم الذي أعلن فيه عن إعادة افتتاح وزارة الخارجية من عدن، تحوّل إلى لحظة رمزية أعادت تعريف معنى “الشرعية” في الوعي السياسي اليمني. فقد تلقى ياسين إشادات داخلية وخارجية واسعة على تلك المبادرة، واعتبرها كثيرون بمثابة عودة رمزية للدولة إلى الحياة.

"أذكر أن الرئيس هادي أشاد بالمبادرة وطلب من بقية الوزراء أن يعملوا مثلنا. كانت رسالة بأن الدولة تبدأ من الإرادة، لا من المباني."

كانت عدن آنذاك مدينة خارجة من أتون حرب. الشوارع مدمرة، الموانئ بالكاد تعمل، والكهرباء مقطوعة لساعات طويلة، لكن قرار ياسين بإعادة فتح وزارة الخارجية حمل بعدًا نفسيًا عميقًا لدى اليمنيين، إذ أعاد لهم الإحساس بأن ثمة مؤسسات قادرة على الصمود في وجه الفوضى.

عدن.. المدينة التي صمدت مرتين

بعد أشهر قليلة من افتتاح الوزارة، تحولت عدن نفسها إلى هدفٍ لهجمات متكررة من جماعات متطرفة، حاولت ضرب رمزية “العاصمة المؤقتة”. وكان أبرز تلك الأحداث تفجير مبنى وزارة الخارجية الذي وقع مرتين خلال عامي 2015 و2016.

الانفجار الأول، في 10 ديسمبر 2015، كان عبارة عن قنبلة يدوية أُلقيت داخل فناء المبنى دون أن تسفر عن خسائر بشرية، لكنها أحدثت حالة من الهلع، وأرادت أن تُرسل رسالة بأن يد الإرهاب قادرة على الوصول إلى رموز الدولة حتى في قلب العاصمة المؤقتة.

أما الانفجار الثاني، في 15 أبريل 2016، فقد كان أكثر عنفًا، إذ انفجرت سيارة مفخخة أمام المبنى، ما أدى إلى مقتل شخص وإصابة عدد من الجرحى، وتضرر واجهة الوزارة جزئيًا. ومع ذلك، لم يتوقف العمل.

"لم نتوقف يومًا عن أداء واجبنا رغم كل ما حدث،" يقول ياسين، مضيفًا: "كان الهدف من تلك الهجمات ضرب رمزية الدولة وتحطيم إرادة البقاء، لكننا كنا نعلم أن مجرد استمرارنا في العمل هو أعظم ردٍّ على الإرهاب والميليشيا."

تحوّل مبنى الوزارة في عدن إلى رمزٍ للمقاومة الإدارية، يوازي المقاومة العسكرية في الجبهات. وبالرغم من التهديدات الأمنية، استمر فريق صغير من الدبلوماسيين في أداء عملهم اليومي، يرسلون البرقيات، ويصدرون البيانات، ويعدّون التقارير، في ظروف لا تختلف عن ساحات القتال.

الدبلوماسية في زمن الحرب

خلال فترة توليه حقيبة الخارجية، أعاد ياسين ترتيب أولويات السياسة الخارجية اليمنية وفق ثلاثة محاور رئيسية:

  1. تثبيت الاعتراف الدولي بشرعية الحكومة اليمنية.
  2. فضح الانقلاب الحوثي كحدث غير شرعي ومدعوم خارجيًا.
  3. إعادة بناء شبكة التواصل مع الدول العربية والغربية، وخصوصًا في مجلس الأمن.

في تلك الفترة، قاد ياسين سلسلة من اللقاءات مع نظرائه العرب، وشارك في الاجتماعات التمهيدية لعاصفة الحزم، وساهم في صياغة خطاب اليمن الرسمي أمام المجتمع الدولي. كان عليه أن يدافع عن قضية بلاده في الوقت الذي كانت فيه الجبهات تتساقط، والمؤسسات تنهار، والخزينة العامة فارغة.

ورغم كل ذلك، نجح في نقل صورة اليمن كـ"دولة تحارب انقلابًا" لا كـ"طرف في حرب أهلية"، وهو ما شكّل الأساس القانوني الذي بُني عليه الموقف الدولي الداعم للشرعية.

"كان العمل الدبلوماسي هو الوجه الهادئ للحرب،" يقول ياسين، "كنا نحارب بالصوت والوثيقة، كما يحارب الآخرون بالسلاح. وكل برقية كانت جبهة قائمة بحد ذاتها."

من عدن إلى باريس: الدبلوماسي الذي لم ينسَ بلاده

بعد انتهاء مهمته كوزيرٍ للخارجية، عُيّن الدكتور رياض ياسين سفيرًا لليمن في الجمهورية الفرنسية، وهو المنصب الذي واصل من خلاله تمثيل بلاده في المحافل الدولية، رغم الظروف المالية الصعبة التي تمر بها السفارات اليمنية في الخارج.

"نقوم بواجبنا بأقصى ما نستطيع، رغم شُح الإمكانيات، والجميع يعرف معاناة السفارات اليمنية. لكننا حققنا نجاحات ملموسة على مستوى تحسين العلاقات مع فرنسا والبرتغال، في مجالات متعددة سياسية وثقافية وإنسانية."

ويشير ياسين إلى أن علاقته بالجالية اليمنية في فرنسا كانت ولا تزال من أفضل التجارب التي عاشها في مسيرته الدبلوماسية:

"علاقتنا بالجالية اليمنية رائعة، والأمور تسير بشكل جيد. نحن لا نأخذ أي رسوم من اليمنيين في المعاملات القنصلية، فجميع المعاملات تُقدَّم لهم مجانًا. هذا واجب وطني، وليس فضلًا."

بالنسبة له، لم تكن الدبلوماسية مجرد تمثيل سياسي، بل خدمة إنسانية في المقام الأول. كان يرى أن الدبلوماسي يجب أن يكون أقرب إلى الطبيب الذي يسعى لتخفيف معاناة أبناء وطنه في الغربة، لا إلى موظف يجلس خلف مكتبه.

رمزية التفجير... واستمرار الدولة

مثّل تفجير وزارة الخارجية في عدن لحظة اختبار قاسية لمعنى الدولة. فالهجوم لم يستهدف المبنى فحسب، بل استهدف فكرة الدولة ذاتها، في لحظة كانت فيها البلاد بين الحياة والموت. ومع ذلك، خرجت عدن من تلك التجربة أكثر صلابة.

كان العالم يراقب ما إذا كانت الحكومة ستغادر المدينة مجددًا، لكن قرار الاستمرار في العمل من داخل عدن أرسل رسالة معاكسة: أن الدولة – رغم هشاشتها – لن تتخلى عن موقعها الرمزي. وبالنسبة لرياض ياسين، كانت تلك اللحظة درسًا في الإصرار.

"ربما لم نكن نملك المال أو الحماية، لكننا كنا نملك الإيمان. والفرق بين السقوط والبقاء هو الإرادة فقط."

في سياق تحليل الأحداث، يمكن القول إن التفجير أعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في عدن. فبينما أراد الإرهاب بث الخوف، وجد أبناء المدينة في الحادث سببًا إضافيًا للتكاتف. بدأت موجات دعم شعبي تتشكل حول المؤسسات الحكومية، وظهرت لأول مرة فكرة أن “عدن يمكن أن تكون عاصمة فعلية”، لا مجرد مقر مؤقت.

بين السياسة والطب.. مهنة الإنقاذ واحدة

 

رغم أن رياض ياسين دخل عالم السياسة من بوابة الصحة، إلا أن فلسفته في العمل لم تتغير. ظل يرى أن خدمة الإنسان هي جوهر كل مسؤولية عامة، سواء كانت طبية أو سياسية.

"حين أتعامل مع مريض، أحاول إنقاذ جسد، وحين أتعامل مع وطن، أحاول إنقاذ روح. في الحالتين، أنت أمام حياة تستحق القتال من أجلها."

تجربته في الحرب جعلته أكثر قناعة بأن بناء الدولة لا يبدأ بالقوانين، بل بالإنسان القادر على الصمود. ولذلك، كان يركز في أحاديثه دائمًا على التعليم، الوعي، والمواطنة، بوصفها مفاتيح الخلاص من دوامة العنف.

شهادة رجل الدولة

اليوم، بعد مرور عقد على تلك الأحداث، تبدو شهادة الدكتور رياض ياسين أقرب إلى وثيقة تاريخية عن لحظة انهيار وبداية نهوض في آنٍ واحد. الرجل الذي بدأ وزيرًا للصحة، ثم أصبح وزيرًا للخارجية، ثم سفيرًا في فرنسا، يمثل نموذجًا لجيلٍ من المسؤولين الذين عملوا بصمتٍ وسط العاصفة.

قد لا يُذكر اسمه في قوائم السياسيين البارزين، لكنه سيظل حاضرًا في ذاكرة اليمنيين كواحد من الذين وقفوا في وجه السقوط، ورفعوا علم الدولة حين ظنّ الجميع أنها انتهت.

لقد كانت قصة وزارة الخارجية في عدن قصة دولة تحاول أن تولد من جديد. من بين الدمار والحرائق والتفجيرات، كان هناك صوت يقول للعالم: "اليمن لم يمت."
وذاك الصوت، في كثير من اللحظات، كان صوت رياض ياسين.