إيران ومرحلة الاضطراب..

إيران في لحظة الانكشاف.. نظام الملالي بين الانفجار الداخلي والهزيمة الإقليمية

إنّ تراكم هذه الأحداث من الداخل والخارج يضع إيران على حافة انفجار اجتماعي كبير. النظام الذي حكم بالحديد والنار أربعة عقود يجد نفسه الآن أمام مجتمعٍ منهك لكنه أكثر وعيًا، وأمام إقليمٍ يرفض عودته إلى المعادلات القديمة.

مواطنة إيرانية تفتش في برميل القمامة عن بقايا طعام - أرشيف

حنين فضل
صحافية وباحثة في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات- خريجة بكالوريوس حقوق & اقتصاد وعلوم سياسية - جامعة عدن.

 تعيش إيران اليوم واحدة من أكثر مراحلها التاريخية اضطرابًا منذ الثورة عام 1979. فالنظام الذي طالما تدرّع بخطاب “المقاومة” وأوهام “الهيمنة الإقليمية” يجد نفسه الآن محاصرًا من الداخل والخارج، في وضع أقرب إلى الاختناق السياسي والاقتصادي والوجودي. في الداخل، تتفجّر السجون بالإضرابات والاحتجاجات، ويُنفذ النظام مئات الإعدامات شهريًا في محاولة لتأجيل لحظة الانفجار. وفي الخارج، تتهاوى أوراق نفوذه في المنطقة واحدة تلو الأخرى، بعد أن فقد الحروب التي غذّاها لعقود بذريعة “نصرة القضية الفلسطينية” أو “محاربة الاستكبار العالمي”.

 

تقرير الأمم المتحدة الأخير، وتصريحات المعارضة الإيرانية، واعترافات الصحف الإيرانية نفسها، تشكّل جميعها لوحة قاتمة لنظامٍ بدأ يفقد السيطرة على أجهزته وعلى الشارع في آنٍ واحد. فالإعدامات الجماعية لم تعد تثير الخوف، بل خلقت رمزية جديدة للمقاومة، والجوع الذي كان أداة للتركيع تحوّل إلى محرك للثورة. إيران 2025 لم تعد تملك ترف التمدد في الإقليم، ولا تملك القدرة على ضبط الداخل، إنها تسير نحو منعطف حاسم يبدو أنه سيحدد مستقبلها لعقود قادمة.

في السجون الإيرانية، تتكرّر مشاهد التمرد الصامت الذي يختزن غضب الشارع كله. سجن قزل‌حصار في مدينة كرج أصبح رمزًا لهذا الانفجار الكامن. فبحسب مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، يواصل أكثر من 1500 سجين محكوم بالإعدام إضرابهم المفتوح عن الطعام لليوم السادس على التوالي، متحدّين تهديدات النظام وممارساته القمعية. إنهم يواجهون آلة الإعدام اليومية التي تجاوزت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية مئتي شخص، في سابقة لم تعرفها إيران منذ عقود. وتُظهر صور متسربة وشهادات عائلات المعتقلين حجم القسوة التي يمارسها النظام داخل السجون، حيث تم قطع الاتصالات وتشويش الهواتف ومنع الزيارات لمنع وصول الأخبار إلى الخارج. لكن هذا التعتيم لم يمنع الحقيقة من التمدد، فقد تحوّل السجن إلى مساحة رمزية للمقاومة، وبيان المعتقلين بعنوان “وصية سجناء قزل‌حصار” أصبح وثيقة أخلاقية تعبّر عن الرفض الجمعي لسلطة الموت.

النظام من جانبه يعيش مأزقًا قاتلًا. فهو يعرف أن التراجع في الإعدامات يعني فتح الباب أمام الغضب الشعبي المكبوت، وأن الاستمرار فيها سيؤدي إلى توحيد جبهة السخط الداخلي. هذه المعادلة المزدوجة هي جوهر المأزق الذي وصفه عقبائي بأنه “صراع بين الخوف من الانتفاضة والعجز عن وقف آلة الموت”. إن خامنئي، الذي كان يعتمد على الإعدام كأداة لتثبيت الرعب، يجد نفسه الآن أمام مجتمع لم يعد يخاف، بل ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

 

لكنّ المشهد الداخلي لا يقتصر على المقاصل وحدها. فهناك مجزرة أخرى أكثر صمتًا وأوسع انتشارًا: مجزرة الجوع. الأرقام الرسمية لوزارة الصحة الإيرانية كشفت أن أكثر من 35 في المئة من الوفيات في البلاد مرتبطة بسوء التغذية، وهو رقم يكشف انهيار الأمن الغذائي في بلد يملك واحدًا من أكبر احتياطات النفط والغاز في العالم. إنه موت بطيء لا يضبطه الحرس الثوري ولا يعلنه التلفزيون الرسمي، لكنه يتسلل إلى كل بيت. كيلو اللحم تجاوز 700 ألف تومان، والفلافل – كما كتبت صحيفة فرارو التابعة للنظام – أصبحت طعامًا فاخرًا في طهران. إن سياسة التجويع هذه ليست خطأً إداريًا بل أداة سياسية ممنهجة، تُستخدم لإبقاء الشعب في حالة انكسار دائم، كما يقول معارضو النظام. إنها الوجه الاقتصادي لآلة القمع نفسها: حبل مشنقة ممتد على مائدة الطعام.

 

وفي الوقت الذي تئن فيه القرى تحت الفقر والعطش، وتُوزع مياه الشرب عبر الصهاريج، يتباهى النظام بمشاريعه النووية وحروبه الإقليمية. المفارقة صادمة: دولة تُنفق المليارات على تسليح الميليشيات في الخارج، بينما تعجز عن تأمين البروتين لأطفالها. هذا التناقض البنيوي هو ما جعل الشارع الإيراني يرى في حكومته عدوًا داخليًا لا حامياً وطنياً. فحين يقول رئيس النظام بزشكيان “نحن ننام على الذهب لكننا جياع”، فهو لا يعبّر عن تعاطف بل عن اعتراف علني بفشل نموذج الدولة الذي صنعه المرشد الأعلى.

 

في المشهد الإقليمي، تأتي الهزيمة الاستراتيجية الكبرى بعد اتفاق شرم الشيخ ووقف الحرب في غزة، لتسدّد ضربة قاصمة لمشروع “تصدير الثورة” الذي بنى عليه النظام بقاءه منذ 46 عامًا. فطهران التي كانت تبرر سياساتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن بذريعة “الدفاع عن فلسطين”، وجدت نفسها فجأة بلا ذريعة. حتى الصحف المقربة من السلطة كـ“ستاره صبح” و“جمهوري إسلامي” اعترفت بأن النظام ارتكب خطأ استراتيجيًا فادحًا حين زجّ بنفسه في صراع عربي–إسرائيلي لا يملك فيه أي أفق للنصر. في المقابل، تراجعت قدرات وكلاء إيران في المنطقة بشكل واضح؛ فحزب الله بات يواجه أزمة داخلية غير مسبوقة في لبنان، والحوثيون في اليمن يرزحون تحت ضغط عسكري واقتصادي متزايد، والميليشيات العراقية تفقد تمويلها وقدرتها على المناورة السياسية، أما سوريا فقد تحولت إلى عبء استنزافي لا ورقة نفوذ.

 

في مؤتمر نظمه المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية منتصف أكتوبر 2025، وصف موسى أفشار هذه التطورات بأنها “نهاية حقبة من النفوذ الإيراني في المنطقة”، مشيرًا إلى أن النظام خسر حتى دعم حلفائه التقليديين. لم تعد قطر أو تركيا قادرتين على الدفاع عن طهران في المحافل الدولية، بينما تتجه مصر والسعودية والإمارات إلى تثبيت السلام الإقليمي على حساب الأجندة الإيرانية. شرم الشيخ، كما قال أحد المحللين الإيرانيين، لم تكن مجرد اتفاق سلام، بل كانت “مراسم دفن مشروع الملالي في الشرق الأوسط”.

 

في الداخل الإيراني، هذه الهزيمة الخارجية انعكست على شكل انقسام سياسي غير مسبوق داخل النظام نفسه. الفصائل المحافظة والمتشددة بدأت تتبادل الاتهامات بالخيانة، والانتقادات خرجت من دوائر مغلقة إلى العلن. علي أكبر ناطق نوري، أحد المقربين من الخميني ومن جناح خامنئي، صرّح علنًا: “كنا نريد أن تكون الجمهورية الإسلامية نموذجًا للعالم الإسلامي، لكن مع الفقر والفساد والاختلاس أصبحنا عبرة لغيرنا.” مثل هذه الجمل لم تكن تُقال في طهران إلا قبل سقوط الشاه. إنها لحظة بداية تفكك الشرعية، حين يعترف رموز النظام بأنهم فشلوا أخلاقيًا قبل أن يفشلوا سياسيًا.

 

وفي خضم هذا الانهيار المتسارع، خرج خامنئي من صمته بعد خمسين يومًا بخطاب وُصف بأنه “عالي النبرة قليل الجدوى”. تحدّث عن “صفعة لأمريكا وإسرائيل”، وعن “هوية الصاروخ الإيراني”، لكنه بدا كمن يخاطب فراغًا سياسيًا وأمنيًا. كان هدف الخطاب واضحًا: طمأنة القاعدة الداخلية المتعبة، وتهديد المعترضين داخل النظام، وبعث رسالة للبقية من وكلائه في الإقليم بأن “الوليّ لا يزال قائمًا”. لكنه في الحقيقة كشف ما حاول إخفاءه: ضمور أدوات القوة، وتراجع قدرة إيران على التأثير في أي من ملفات المنطقة. خطاب بلا مخرج، كما وصفته المعارضة، لأنه لم يقدم رؤية أو مراجعة، بل مجرد تكرار لشعارات فقدت معناها.

 

الأمم المتحدة التقطت بدورها إشارات هذا التدهور، فجاء تقرير الأمين العام أنطونيو غوتيريش في 21 أكتوبر بمثابة لائحة اتهام رسمية ضد النظام. التقرير وصف الإعدامات بأنها انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، ودعا إلى وقفها فورًا وإطلاق سراح السجناء السياسيين والمعتقلين تعسفًا. كما طالب بانضمام إيران إلى اتفاقية مناهضة التعذيب، وبإلغاء القوانين التمييزية ضد النساء. لم تكن هذه مجرد توصيات تقنية، بل تحوّلًا سياسيًا في مقاربة المجتمع الدولي لإيران، إذ دعا غوتيريش إلى ربط العلاقات الدولية بملف حقوق الإنسان، وهو ما يعني عمليًا وضع النظام تحت رقابة دبلوماسية مشددة، وربما التمهيد لعقوبات حقوقية أوسع.

 

في مقابل ذلك، تتوسع حملة “ثلاثاءات لا للإعدام” التي يخوضها السجناء السياسيون أسبوعيًا احتجاجًا على الإعدامات، لتشمل 52 سجنًا في عموم البلاد. هذه الحملة لم تعد مجرد فعل احتجاجي محدود، بل تحولت إلى رمز للمقاومة المدنية المنظمة، يُذكّر الإيرانيين كل أسبوع بأن آلة القمع ليست قدَرًا لا يُكسر. تترافق هذه التحركات مع نشاط متزايد لـ “وحدات الانتفاضة”، وهي خلايا المقاومة الشعبية التي تنظم عمليات رمزية ضد مراكز الحرس الثوري ومؤسسات النظام، في محاولة لإبقاء جذوة الغضب حيّة.

 

إنّ تراكم هذه الأحداث من الداخل والخارج يضع إيران على حافة انفجار اجتماعي كبير. النظام الذي حكم بالحديد والنار أربعة عقود يجد نفسه الآن أمام مجتمعٍ منهك لكنه أكثر وعيًا، وأمام إقليمٍ يرفض عودته إلى المعادلات القديمة. ومع فقدانه أدواته الإقليمية وانكشاف ضعفه الاقتصادي، لم يعد يمتلك سوى لغة العنف لفرض البقاء. غير أن هذه اللغة نفسها فقدت مفعولها؛ فكل إعدام جديد لا يولّد الخوف بل الغضب، وكل ارتفاع في الأسعار لا ينتج الصمت بل السخط.

 

كل المؤشرات تشير إلى أن الوقت لم يعد في صالح النظام. خامنئي الذي يفاخر بصواريخه يفقد السيطرة على شوارع طهران، والحرس الثوري الذي صنع نفوذًا في أربع عواصم عربية يخسر المعركة في الداخل. التناقضات البنيوية بين دولة الحروب الخارجية وشعب الجوع الداخلي وصلت إلى أقصى حدودها. ومع استمرار الإعدامات والاحتجاجات، وتصاعد التقارير الأممية، وتنامي نشاط المعارضة المنظمة، تبدو إيران على أبواب مرحلة جديدة قد تكون أكثر اضطرابًا من كل ما سبقها.

 

إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية عابرة، بل انهيار تدريجي لمنظومة “ولاية الفقيه” نفسها. فالنظام الذي استمد شرعيته من “الثورة” فقد روحها، والذي تذرع بـ“العدالة” أصبح رمزًا للظلم. كل شيء في إيران اليوم يشير إلى انكشاف الحقيقة: لا مقاومة هناك ولا ممانعة، بل سلطة خائفة من شعبها، تأكل أبناءها وتنهب مواردها باسم الدين.

 

قد ينجح النظام في تأجيل السقوط، لكنه لن يستطيع تجنّب النهاية. فالأمم لا تُحكم بالإعدامات إلى الأبد، والجوع لا يُستخدم إلى ما لا نهاية كسلاح للبقاء. إنّ انتفاضة جديدة تلوح في الأفق الإيراني، تُغذيها بطون فارغة وكرامة مهدورة ودماء سجناء يصرخون من خلف الجدران. وسيسجّل التاريخ أن نهاية نظام الملالي لم تبدأ من حربٍ خارجية، بل من داخل زنزانة، ومن صرخة جائع قال “كفى”.