تصرف عجيب..

البقلة الحمقاء

توفيق قريرة

توفيق قريرة

قد يكون للقدامى تصرف عجيب في العلامات وتأويل لها مثير للإشكال؛ ولا نعتقد أن ذلك التأويل مشترك بين الناس، ولكنه تأويل مَدسوس بنية زرع الأسطورة.
وسنفصل في هذا المقال الحديث عن تأويل موجه للعلامات بناء على علامات الحمق في كتاب «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي الفقيه والمتكلم والمؤرخ المعروف.
نقل ابن الجوزي أن الحمق صفة أطلقت في الأصل على نوع من البقل يسمى الحمقاء «وإنما سميت البقلة الحمقاء لأنها تنبت في سبيل الماء وطريق الإبل. وقال ابن الإعرابي وبها سمي الرجل أحمق لأنه لا يميز كلامه من رعونته» (أخبار الحمقى). يوهمنا هذا التعليل الذي يبحث عن أصل الكلمة أن الحمق بما هو صفة بشرية خُلع على هذه النبتة لأن فيها من الرعونة ما في الإنسان الأحمق من رعونة، فهي تنبت في طريق المسيل ليجرفها الماء. المهم أن صفة الحمق هي هنا صفة بشرية إذا ما علقت بالنبات كانت مجازا فيه. وهذا يعني أن العبارة أطلقت أولا على الإنسان الأرعن، فكان معناها حقيقيا، ثم نقلت إلى البقلة على سبيل المجاز قبل أن تعود إلى حقيقتها الأولى. وهذا المسار من الحقيقة إلى المجاز ثم إلى الحقيقة ممكن، ولكنه متعذر في هذه الحالة. هو ممكن مثلا في عبارة سيارة التي كانت تطلق على القَافلة، ولا شك في أن إطلاقها على العربات كان في بدايته مجازا، لكن حين سارت العبارة على لسان الناس ونُسي أصل اشتقاقها من القافلة باتت كلمة سيارة حقيقة بعد مجاز.
غير أن الأمر في كلمة حمق مختلف، فهو يوهمنا بأن المجاز الذي في البقلة عاد إلى حقيقيته مع اتصاف الإنسان بالحمق ؛ ولو قسنا الأمر على سيارة لكان بمثابة قولنا إن القافلة السيارة قد أُخذت من العربة السيارة وهذا لا يصدقه أحد لتأخر الحقيقة الأولى، حقيقة القافلة صنعا وتصورا عن تصور الحقيقة الثانية، حقيقة السيارة.
قد يكون الحمق في حكاية البقلة رمزا لا مجازا والرمز هو في هذا السياق علامة على فكرة مثلما تكون الحمامة علامة على السلام والوردة الحمراء علامة على العشق؛ بل إن في البقلة أكثر مما في الحمامة وفي الوردة ،لأنها مرّت من كونها رمزا لتصيبها هي بدورها لعنة الصفة. وهنا خرجنا من التعامل مع الرمز بما هو تمثيل إلى كونه تأويلا. لا يمكن للحمق أن يكون حقيقة إلا إذا ارتبط بالإنسان ونسبته إلى الحيوان أو النبات أو الأشياء، هو تأويل عاقل لسلوك آخر يراه ينم عن اللاعقل. بهذا يفهم الحمق عند البقلة فهمَ تأويل بأنها ولدت في غير منبتها المنجي لها من الهلاك: مجرى السيل؛ حتى لكأن لها الإمكان في أن تنبت في أكثر من موضع، ولكنها اختارت منبتا فيه هلاكها. هذا التأويل لا ينسجم مع الخصائص العلمية التي لهذا النبات؛ وهو ينسجم مع الطبيعة الأسْطورية التي تبنى حول نبت أو حول حيوان فتقلبه إلى رمز.
أسطورية العلامة واضحة في حكاية البقلة وعلاقتها بالحمق، لكنها خفية في ما رسم من الأمارات التي يستدل بها على الأحمق. إذ يرى ابن الجوزي أن هذه العلامات تنقسم قسمين: علامات (يسميها هو صفات) «في الصورة» والثانية «في الخصال والأفعال». فأما علامات الصورة ويعني بها العلامات المدركة بحاسة البصر، فيذكر ابن الجوزي أن الحكماء والفلاسفة أرجعوها إلى أشياء مرتبطة بالخلقة، وهي الرأس الصغيرة والعين الكبيرة وحسن الصوت والامتلاء باللحم الصحيح وطول اللحية. يقول ناقلا عن جالينوس: «لا يخلو صغر الرأس البتة من دلالة على رداءة هيئة الدماغ». ويقول عن العين: والعين المشبهة لأعين البقر تدل على الحمق». يقول عن الشعر «والشعر على الكتفين والعنق يدل على الحمق والجرأة». ويقول عن الصوت: «وحسن الصوت دليل على الحمق وقلة الفطنة». ويروي أنه جاء في التوراة «إن اللحية مخرجها من الدماغ فمن أفرط عليه طولها قل دماغه». حجم الرأس واتساع العين وطول الشعر الذكوري ونوعية الصوت وطول اللحية، عناصر وظفت في هذا السياق دوال على معنى واحد هو الحمق.
هذه العلامات تصنف في باب الرموز لأن العلاقة بين العلامة وما تمثله هي علاقة اعتباطية، فما من شأن يربط بين حجم الرأس والحمق. لكن هذه العلامات بما هي رموز ليست اعتباطية، بل يريد المؤلف وهو يعتمد على حجة السلطة (الحكماء وجالينوس مثلا) أن يجعلها نافذة سائرة على كل من اتصف بها. إن هذه العلامات تحيل في مجملها إلى رهط من البشر يبدو أنهم هم المستهدفون من هذه الصفات وأن العلامات هذه لم تكن إلا من باب احتقار الأجناس الأخرى واتهامها بالحمق، وهذا داخل في تناقض قديم بين استواء الجسد وسلامة الذهن فكأن الطبيعة لا تعطي الجمال والكمال معا، بل إن أعطت أحدهما أنقصت الآخر. أما العلامات المعنوية فهي في مجملها أخلاقية وفكرية ونقل عن بعض الحكماء بعضا منها إذ يقول: «علامة الحمق سرعة الجواب وترك التثبت والإفراط في الضحك وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار والاختلاط بالأشرار، والأحمق إن أعرضت عنه اغتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإن ظلمته أنصفت منه ويظلمك إذا أنصفته». فلفظ علامة التي استخدمها ابن الجوزي في مفتتح كلامه عني بها الدليل الذي يحيل على مدلول الحمق. ويمكن القول بناء على ذلك، وبقطع النظر عن اعتباطية هذه الأدلة، إن الحمق مدلول كثيرةٌ دواله فهو يشبه في العلامة اللغوية ما يعرف بالترادف. الترادف العلامي كالترادف المعجمي، وهو الأسماء المتعددة لمسمى واحد؛ لكنه يختلف عنه في أن الترادف بالعلامات لا يسمي أو لا يعين، بل يشير أو يومئ وهذا ما يجعل منها علامات بالمعنى البدائي للعلامة وهو الأمارة. هي تشبه الأعراض على العلل وتثبت أن من تحدث عن علامات حمق تعامل معها على أنها أعراض على علل باطنة نفسية ذهنية واعتبروها عللا لا شفاء منها.
العلامات الدالة على الحمق شيء وخطاب الحمقى، الذي يبوب في النوادر شيء آخر. فكلام الحمقى إن تعاملنا معه خطابا كان قابلا لأن يكون متعقلا لا تفارقه الفطنة ولا يبطل منه الإيماء. هذا شأن الخبر المنسوب إلى حجا فلقد «هبت ريح شديدة فأقبل الناس يدعون ويتوبون، فصاح جحا، يا قوم لا تعجلوا بالتوبة، وإنما هي زوبعة وتسكن». لا شك في أننا سنذهب في قول جحا المحمول على الحمق مذهبين: واحدا يرده إليه والآخر يرده إلى الحكمة. ولن يكون أحدنا عندها حاملا لأي دليل من دلائل الحمق، إذ من تدبر قولا على أي جهة بعقله كان خارجا من علامات الحمق النسبية داخلا في أمارات العاقلية النسبية.