مصلحة العائلة..

الولد العاق والخائن والأعمى

سهيل كيوان

سهيل كيوان (لندن)

لم يكن مفاجئاً لي الإعلان الغريب لأسرة الشريف المصرية في ولائها للسيسي ما عدا وليد الذي وُصف بالولد العاق، أتفهّم هذه العائلة جيّداً.
رأيت إعلاناً مشابهاً قبل سنوات في إحدى قرانا في الجليل على متجر كبير، «سوبر ماركت فلان الفلاني وأولاده ما عدا فلان»، يبدو أن الاسم الذي جرى استثناؤه من المصلحة التجـــــارية سبَّب لها خسائر بعمل ما قام به، قد يكون عملاً غير أخلاقــــي ترفضــه العائلة وتتبرّأ منه، وذلك تحاشياً للمقاطعة التجـــارية والاجتماعية التي قد تُفرض على المتجر وعلى العائلة تلقائياً من قبل الجمهور الواسع، فاضطرت العائلة لمثل هذا الإجراء، وذلك أن النظام القبلي والقروي الضيّق يأخذ العائلة كلها بذنب أحد أفرادها. 
الحقيقة الخفية وراء إعلان عائلة الشريف المصرية، هي أن وليد العاق قد يُعرّض مصلحة العائلة للخطر، وبهذا تعلن العائلة من دون أن تدري بأن هذا النظام الدكتاتوري لا يؤتمن جانبه، وقد يعاقب كل أفراد العائلة بسبب تمرّد أحد الأبناء على الطاعة، لأن النظام الدكتاتوري معتاد أن يعاقب الجميع بجريرة الفرد. هذا أحد أساليب النظام الدكتاتوري في إحكام قبضته على الناس، فهو يحوّل الجميع إلى رقباء على الجميع وكلهم يخشون العقاب فيقاطعون ويحاربون الخارج عن السرب. 
وقد يقاطع الناس عائلة ما في تجارتها خوفاً من شبهة التقرّب منها ومن إبنها»سيّء السمعة»، وبهذا يشتركون بمعاقبة أسرة المعارض ليكون المجتمع كله شريكاً في القمع. قد يكون وليد من المشبوهين في قضية سياسية وحتى أمنية خطيرة، ولكن ما ذنب العائلة كلها حتى ترتعب وتعلن مثل هذا الإعلان في الولاء سوى خوفها من الدكتاتور والقطيع المؤذي الموالي له!
في معظم قرانا العربية تأسست المجالس المحلية في الستينيات، ورغم أن انتخاب الرئيس والأعضاء يجري بشكل ديمقراطي وسري، إلا أن هذه السرّية في القرى الصغيرة كانت شبه علنية، فالاصطفاف العائلي يتّضح قبيل الانتخابات بأشهر، وأي تغيير في الموقف مهما كان ضئيلاً، قد يقلب النتيجة أو يرجّحها لطرف ضد آخر، هؤلاء الذين يخرجون عن إجماع العائلة ويغيّرون النتيجة يطلق عليهم بكل بساطة تسمية الخَوَنة، وقد تقاطعهم العائلة والحلف، وسوف يذكرون لهم موقفهم «الخياني» لسنين قادمة، خصوصاً إذا أضر هذا الموقف بالفوز بالرئاسة أو العضوية أو بالحصول على وظيفة ما.
عادة كان يترشح للرئاسة في قريتنا إثنان، كل واحد منهما يرأس عائلة كبيرة متحالفة مع عائلات أقل عدداً، يفتح كل منهما ديوان بيته قبل الانتخابات بأشهر، ليتحوّل إلى مقر للنشطاء والمؤيدين للسهر والسّمر وحسابات الأصوات.
في إحدى الجولات في مطلع السبعينيات صادف أن حضر ديوان أحد مرشحيّ الرئاسة رجل بعكس توجّه عائلته، وكانت له غاية من المرشح، فقد ظن أن بقدرته تخفيف ثلث المدة التي تمنح للسجناء الجنائيين عن ابنه السجين الأمني، وذلك بسبب علاقة المرشح الخاصة مع أحد رجال السلطة الكبار.
كان في السهرة رجل ضرير، له ثأر قديم مع هذا الرجل، فأراد أن يلمز ويغمز من جانبه، فاستأذن بأن يحكي، ثم قال: هذا يا جماعة كان لدى شخص ما ديك من الحجل، يرشّ له الحَبَّ في ساحة بيته ويطلقه، فيأخذ هذا بنقد الحب فيجذب غيره من الطيور، وحين تجتمع حول الحبّ يلقي الرجل شبكته عليها فيصطاد بعضها لتكون وجبة لغدائه، وقد اعتاد أن يفعل هذا في كل بضعة أيام. 
وكان له جار، انتبه لما يفعله، فأتى إليه وعرض عليه أن يشتري منه ديك الحجل وأغراه بالمال حتى وافق، وما أن تسلّمه حتى استل سكيناً من جيبه وذبح ديك الحجل ورماه للقطط، فقال الرجل مندهشاً: «لماذا ذبحته وقد دفعتَ ثمنه باهظاً، فقال جاره: لأنه خائن لأبناء جنسه والخائن يحلُّ ذبحه». 
فهم الحضور أن القصة موجهة إلى هذا الرجل الخارج عن إجماع عائلته، وأن الرجل الضرير قصد إهانته، إلا أن هذا الرجل «الخائن» لم يكن هيّناً، فاستأذن بالحديث وقال: وحّدوا الله يا جماعة.. فقالوا: لا إله إلا الله، فقال: هذا يا جماعة، عندما قذف الحوت سيدنا يونس من جوفه، كان جسده طرياً مثل العجين تؤذيه الشمس، فاستظل ببيت من اليقطين، وكان على الشاطئ أطفال يلعبون ويمرحون باستثناء ولد أعمى وقف جانباً محروماً، فتوجه يونس إلى ربّه متسائلاً: «يا ربُّ، لِمَ حرمت هذا الطفل من نعمة النظر! لم لا تجعله مبصراً كي يلعب مثل رفقائه! فاستجاب الله لرغبة يونس، وفتّح الولد وأبصر، وكان أول شيء وقعت عليه عينا الطفل هو يونس عليه السلام، فتناول حجراً ورماه به، ثم دعا بقية الأطفال ليفعلوا مثله، وراحوا كلهم يلقون الحجارة على سيدنا يونس فتلتصق الحجارة بجسده الطري فيتألم ويصرخ، يا إلهي..الرحمة يا رب، ماذا فعلتُ حتى تعاقبني!»، فأرسل له الله وحياً قال له: «تأدّب يا يونس، ولا تتدخل في ما لا يعنيك فتلقى ما لا يرضيك». 
وأضاف الرجل على لسان الوحي أنه قال: «وين بتشوف أعمى إكسر له عصاه واسكب له عشاه، إنت مش أَولى من ربّه اللي عماه». 
إنها الديكتاتورية التي تأخذ العائلة وحتى الحي والقرية كلها بجريرة أحد أبنائها، وهي القبلية التي ترى بالخارج عن السرب خائناً، وهو المجتمع الذي يعاقب عائلة بذنب ابنها، وطبعاً لا ذنب لعميان العالم بشقاوة الولد الذي رجم سيدنا يونس.