حتى تجفَّ ثيابُك..

نزار نهرٌ دافقٌ إن خضتَ فيه تحتاج إلى شمس حارقة

لم يكن نزار مولعا بالزخرفة بالكلمات وحسب، وإنما في الفن أشياء بيته أيضا تشي بذلك

العرب (لندن)

جلسي خمسَ دقائقْ/ لا يريدُ الشَّعرُ كي يسقطَ كالدرويش في الغيبوبة الكبرى/ سوى خمس دقائق/ لا يريد الشِّعرُ كي يثقبَ لحمَ الورق العاري/ سوى خمسِ دقائق/ فاعشقيني لدقائق/ واختفي عن ناظري بعد دقائق/ لست أحتاجُ إلى أكثر من علبة كبريتٍ/ لإشعال ملايين الحرائق/ إن أقوى قصص الحب التي أعرفها/ لم تدُم أكثر من خمس دقائق.

هل مات نزار؟ ماتَ منذ خمس دقائق. أو كأنه لم يمُت أبدًا. فهو “رقمٌ صعبٌ” عصيٌ على الموت. وهل تموتُ الأرقام؟ مَن منّا، نحن شعراءَ الراهنة، نجا من “شَرَك” نزار؟ الإجابة، تقريبًا “لا أحد!”. نزار عتبةٌ حتميةٌ؛ يمرُّ عليها الشعراءُ، ثم يبرحونها بعد برهةٍ، أو برهتين، وقد علق بعباءاتهم شيءٌ، قَلَّ أو كَثُر، من غبار تلك العتبة الصعبة. معظم شعراء الراهنة قلِّدوا نزار في البدايات، بوعي أو دون وعي، أو تأثروا به. وإن وجدتَ شعراء كبارًا ينهلون من معين نزار حتى في مراحل نضوجهم، فلا تندهش، ولا تلُمهم. فهو “شَرَكٌ” صعبٌ، والتخلُّص من خيوط الشرك يحتاج إلى عزمٍ قويّ لا يمتلكه إلا أولو العزم.

نزارُ، سهلٌ سهولةَ الماء، وعصيٌّ كما خيط العنكبوت. نهرٌ دافقٌ إن خضتَ فيه، تحتاج إلى شمس حارقة وبعض يوم حتى تجفَّ ثيابُك من مائه. وأحبولةُ عنكبوتٍ إن علِقتَ فيها، تحتاجُ دهورًا حتى يستخلّص جسدُك من كامل خيوطه.

في بداية الصبا بعدما، حين بدأتُ كتابةَ الشعر، تأثرتُ بإبراهيم ناجي. كنتُ أحاكي قصائده وأغيّر في كلمات المتن والقوافي. وسرعان ما خرجتُ من عباءته لأسقطَ في أحبولة نزار. ولما اكتشفتُ أن التخلُّصَ من خيوطه صعبٌ على ضعفي، عاقبتُ نفسي عقابًا مُرًّا. حرّمتُ على نفسي كتابة الشعر أعوامًا ثلاثة. كلّما راودني شيطانُ الشعر، دحرتُه وكتمتُ الكلماتِ في صدري لئلا تخرج ممزوجةً بعطر نزار. كنتُ أجاهِدُ نفسي، وأجاهدُ الشعر، وأجاهدُ العنكبوت. معركة ثلاثية مُرّة وصعبة على طفلةٍ تحبو على عتباتِ الأدب.

 لكن عنادي كان صلبًا وكبريائي كانت حادّة. كلما ضعفتُ أمام نزار وقلتُ لنفسي ما قاله عنترة بن شداد “وهل غادر الشعراءُ من مُتردّمِ؟”، كانت كبريائي تصفعُني قائلة لي ما قاله نزار “إن لم تستطع أن تأتي بشيء مدهش، فلا تتحرّش بالورق الأبيض”. فكنتُ أقاوم التحرش بالورق حتى أصفو إلى صوتي الخاص. وصفا صوتي بعد برهة. فكتبتُ الشِّعر وأعلنتُ نفسي شاعرةً.

ولد نزار قباني في يوم الربيع. 21 مارس 1923، وطار إلى عالم الخلود قبل أن يبرح الربيعُ الأرض في أبريل منذ عشرين عامًا. وكأنما لم يمت إلا منذ خمس دقائق. فهو عائشٌ لا في دواوينه هو فقط، إنما في ديوان الشعراء كافّة. فلا بد أن تعثر عليه في كل ديوان شعري لشعراء الراهنة، مختبئًا بين سطرين أو متخفيًّا وراء كلمة أو نائمًا تحت ظلّ صورة شعرية. ولا بد ستعثر عليه في أغاني المطربين هنا وهناك في شرق العالم العربي وغربه راقصًا فوق ألسنتهم، متواثبًا فوق خيوط حناجرهم.

نزار قباني طفلٌ يتواثب فوق خرائط الفرح وخرائط العذاب وخرائط الهوى. قبض على خيوط جغرافيا القلوب والعشق فأحبّه العشاقُ وتلصّصوا على قلبه ليسرقوا من نزفه ما يكتبونه لحبيباتهم فتسقط الحبيبات في الهوى من فرط لوعة الكلمات.

أذكر أن أول قصيدة عشق وصلتني من “ابن الجيران” كانت من مُقرصنات نزار قباني. كنتُ صغيرةً جدًّا فلم أعرف وقتها أن القصيدة مُقرصنة من نزف نزار.

لكنني عرفتُ أن الحبَّ وخطاباتِ الحبِّ وكلماتِ الحب، لا تكون إلا هكذا. فدقَّ قلبي دقَّتَه الأولى. أحببتُ الكلمات قبل أن أحبَّ مَن أحبّني وكتبَ لي شعرًا يشبه شعر نزار قباني. علّمني نزار أن أعشق قبلما أعرف ما العشقُ. علّمني نزار أنني أنثى قبلما أدرك ما الأنوثة. ولم أدر وقتها أنني بدأتُ مرحلة السقوط في أحبولة الشعر وأحبولة نزار قباني.

فيا نزار، مُتْ ما شاء لك الموتُ، فأنت حيٌّ على صفحات الشعر وفي نزيف الشعراء، وفي قلوب العشاق.