استبدال الكلمات بصور جاهزة..

جغرافيات النسيان

العين بمواجهة الأصابع

باريس

تحولت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى جزء من تكويننا الثقافيّ كبشر، واستبدلت العالم الواقعي بآخر رقميّ، محكوم بمجموعة من آليات الإنتاج والتلقي أساسها الصورة، إذ أصبحت فضاءات الإنترنت مساحة للنشاط البشري، تتغير ضمنه شروط إنتاج الفرد لذاته، بحيث تتجاوز الشروط الماديّة والتكوين الجسدي، نحو مساحات مائعة، تعيد تعريف الحواس، وإدراك الفرد لذاته وللعالم من حوله، الذي تحول إلى سلسلة من الصور التي تختزن في ذاكرتنا وعلى الإنترنت على حد سواء، ويمكن الوصول لها ببضع كلمات على أي محرك بحث.

يشهد متحف "jeu de paume" في العاصمة الفرنسية باريس معرضا للفنانة الفرنسية الكورية دافني لوسورجانت، بعنوان "جيوبوليتيك الغياب"، والذي تعمد فيه عبر سلسلة من التجارب الفنية والأدبية المرتبطة بالإنترنت، إلى تفكيك مفاهيم اللغة البشريّة ومرجعياتها، بوصفها تكوّن المعرفة البشريّة وتصوغها، إذ توظف الوسائط التكنولوجية وأساليب التلاعب بالصور وقصها ولصقها، لخلق لغة خاصة أساسها الصور الموجودة على الإنترنت، بوصف الأخيرة معادلا للوعي البشري والذاكرة الجمعية التي استبدلت تجاربنا الحقيقية بأخرى رقميّة لا أصل لها.

تستوحي لوسورجانت مقاربتها من رواية جورج أورويل 1984، والتي تقوم فيها الدولة الشمولية باستبدال اللغة اليوميّة بأخرى رسميّة، خالية من التفكير النقدي، هذا التصميم القمعيّ، يتم عبر عمليّة اختصار وتقنين اللغة التي تفرضها السلطة على شخوص الرواية، لتصبح لغتهم المتداولّة أداتيّة وخالية من المجاز، ومن وحي هذه التقنيّة التي تقضي على الفردانيّة، تبني لوسورجانت مقاربتها النقدية للثقافة/ اللغة عبر الصور، إذ تتبنّى مفاهيم الفصام والانفصال بين الدال والمدلول، كنتيجة للاستنساخ الهائل للصور من جهة، وجهود الجهات التي تتحكم بتدفق الصور من جهة أخرى، ما أدّى إلى تغير آليات إدراكنا للحدود من حولنا، سواء عبر الحواس أو عبر التفكير.

القسم الأول من المعرض يشمل مشاركة الفنانة في برنامج القمر الصناعي 11 الذي أنشأه المتحف، والمرتبط بآليات التعبير باستخدام الإنترنت والوسائط الرقميّة، وفيه تسعى عبر مجموعة من الصور والفيديوهات إلى مقاربة مفهوم اللغة في عصر ما بعد الإنترنت، حيث تحولت مرجعية الدوال إلى الصور الجاهزة الموجودة على الإنترنت، بعكس المقاربة التقليديّة التي ترى أن مرجعية اللغة هي الواقع والتجربة الحيّة سواء كانت ثقافيّة أو طبيعيّة، من هذا المنطق تقوم الفنانة بتطوير تقنية للكتابة عبر الصورة، وذلك باستبدال الكلمات بصور جاهزة موجودة سابقة على الشبكة العنكبوتيّة، ثم التلاعب بها رقمياَ حتى تفقد سياقها ومعناها الأصلي، في دلالة على قدرة الإنترنت والصور المنتشرة على تجزئة التجربة البشريّة، وتحويلها إلى نظام علامات مصطنع موجود في العالم الرقمي.

تتبنّى لوسورجانت أنظمة تصنيف وتشبيك المعلومات على الإنترنت، لتوليد أعمالها البصريّة والنصية، عبر توظيف آليتين ترتبطان بالحواس وكيفية إدراكنا للصور الرقميّة، الأولى تتعلق بحركة العين وكيفية تتبعها لعناصر الصورة، أما الثانية فترتبط بالأصابع وكيفية لمسنا للشاشة لتغيير حجم الصورة التي تعرضها.

 لا تتوقف الفنانة هنا، إذ تحاول عبر هاتين الآليتين تخيّل جماعتين بشريتين مختلفتين، تستخدم كل منهما واحدا من الأنظمة اللغويّة السابقة، ثم الصراع بينهما حول إنتاج المعارف والعلامات وآلية ترتيبها، وهذا ما ينعكس عبر تقنيات المونتاج والقص واللصق التي تستخدمها لتوليد اللوحة، ما يجعل الأعمال أشبه بلغة مستقبلية ستسيطر علينا كليا، وتستبدل نظامنا المعرفيّ، ليبدو المعرض أشبه ببحث في جغرافيا المعرفة والمساحات الخفية التي مازالت قيد التكوين.

تبدو الأعمال في المعرض للوهلة الأولى بسيطة، ولا تسترعي الكثير من الانتباه، لكونها أقرب إلى كولاج صنعه هاو، وهذا ما يجعل المعرض يعتمد على الصيغة المفاهيمية والنصيّة أكثر من تلك الجماليّة المرتبطة باستقلال العمل الفنيّ، إذ لا بد من قراءة النصوص والنظريات التي تتبناها الفنانة، والتي تقودنا إلى فهم محاولاتها لكسر أشكال التفكير التقليديّة، وآلية إنتاجها للموضوعة البشريّة.