جماعات وفيرة من أهل الأدب..

قواعد العشق الأربعون

ألوان من الفنون والثقافة والفكر والسياسة

محمد قواص

سيرتبك الكاتب كثيرا في عزف ما يمكن أن يكون لافتا في الحديث عن أصيلة. جماعات وفيرة من أهل الأدب والفكر والصحافة والفن والسياسية سبق أن قالت وكتبت وستبوح بالكثير عن المواسم التي تتالت على المدينة منذ أربعة عقود. وفي ذلك ما أفصح عن حقيقة يختلط داخلها ما هو موضوعي علمي دقيق بما هو عاطفي تثيره روحية هذه الأزقّة التي ترتسم بجانب البحر، فتشكل خطوط لوحة تنبسط في شمال المغرب على مسافة حميمة من طنجة الشهيرة.

عرفت أصيلة قبل أن أعرف محمد بن عيسى. كنت أعمل في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي في مجلة “اليوم السابع” التي كان يرأس تحريرها في باريس الصحافي القدير بلال الحسن. كانت صفحات القسم الثقافي تضجّ كل عام بأوراق وأخبار عن مواسم المدينة الشهيرة.

في ذلك الزمان كان موسم أصيلة فتيا مقارنة بمهرجانات ثقافية كانت تُنظّم في عواصم ومدن عربية أخرى. وحدها أصيلة كانت تمّثل استثناء يقترب من النشاز في مضمون وشكل الجمهرة التي تضجّ بها المدينة. كانت شخوص المواسم متعددة الهويات، ليس بجنسياتها فقط، بل في انتماءاتها إلى عوالم متباينة مختلفة متعددة في الثقافة والفكر والسياسة.

نعم أراد بن عيسى، ذلك الدبلوماسي المفتون بالسياسة التي دفعته يوما إلى قيادة وزارة الخارجية في بلاده، أن يجعل من مدينته الصغيرة “عاصمة” أخرى تضاف إلى الرباط خلال أسابيع معدودة تعلن فيها أصيلة كل عام مدينة لهذا العالم.

أراد الرجل أن يُخرج المناسبة من إطار المهرجانات الثقافية التقليدية المعروفة ويدفع بها نحو فضاءات أوسع يجول داخلها أصحاب القرار في السياسة وأصحاب القول في المعرفة والأدب والشعر كما أصحاب الإبداع في نسخاته التشكيلية.

داخل جدران المدينة، وعلى مدى أربعين عاما تقاطرت قامات كبرى في الدبلوماسية والسياسة والحكم والإبداع من أصقاع الدنيا. تبادلت القول وتقاذفت الأفكار، تعايشت داخل خلافاتها، أنصتت كثيرا لهموم وهواجس يحملها مثقفون.

بدا أن أهل السياسة أكثر إنصاتا لأهل الثقافة، فضولا أو تملقا، وبدا أيضا أن نزق المبدعين لا يصبر على خطب الساسة مهما تنوعت لغاتهم. وبين عالم الحكم وعالم الفكر جرى تماسّ قلّ أن احتضنه مكان آمن على هذه الأرض. أمر فعلته أصيلة.

لا يذكر التاريخ إلا صناعه المجانين. هكذا يوصفون حين يخرجون عن السائد والرتيب. أن يوقظ بن عيسى مدينة صغيرة منسية لا يأبه لها المحيط ويحملها يوما بعد آخر ويحوّلها إلى معلم كبير من معالم المغرب، ففي ذلك أعراض ذلك الجنون.

حلم أصيلة

البحرين.. أربعون سنة في أصيلة

استضاف مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية تقديم كتاب أصيلة 40، وهو كتاب صدر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، بإشراف الشيخة هالة بنت محمد آل خليفة، وكيلة الهيئة، يستحضر المشاركة البحرينية الفنية في مواسم أصيلة منذ بدايتها.

وقالت رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، إنه لمدة أربعين عاما والبحرين توجّه بوصلتها نحو أصيلة، وجهة المثقفين في كل عام.

وتضيف الشيخة مي بنت محمد آل خليفة أن البحرين تشارك في هذا الموسم الثقافي العريق تعزيزا للحراك الثقافي العربي ومستفيدة من تجربة أصيلة في استثمار الثقافة لصناعة تنمية مستدامة تحقق التغيير الإيجابي في أوطاننا العربية التي نريدها أن تكون جزءا من المشهد الثقافي الإقليمي والعالمي.

كثيرا ما يطمح عمدة أي مدينة في العالم إلى تأهيلها وتطوير بناها التحتية وجذب الاستثمارات نحو أوردتها وانتشالها من تخلف تنموي، فتلك أبجديات لا تحتاج إلى عبقرية نادرة. لكن رجل أصيلة الشاب العائد قبل عقود أربعة، بعد 23 عاما من الاغتراب، أراد لمدينته دورا ووظيفة يُدرجان المدينة إلى الأبد داخل التاريخ المعاصر للمملكة المغربية.

يعرف بن عيسى أن مغامرة أصيلة لم تكن لتكون في بلد عربي آخر. يهمس جلّ من دعتهم المدينة إلى أحضانها عاما بعد عام، أنهم حضروا مهرجانات الثقافة في بلدان عربية أخرى لكنهم وجدوا في أصيلة عبقا غريبا عن السائد في مدن العرب الأخرى. لم يكن أولئك يتحدثون عن ناس أصيلة وجدرانها ودينامية عمدتها، بل عن ذلك الهامش الرحب من الحرية المفقود عند الآخرين، ومنهم من همس لي أن في تلك الحرية الناطقة بالعربية سريالية مربكة لم يعتادوها ولم يألفوا التعامل معها.

لم تكن أصيلة تعبق بذلك الصخب المتمرد الذي كانت تعجّ به مهرجانات أفينيون أو نيويورك أو فينيسيا أو حتى مكسيكو، لا سيما في السنوات الأولى لتلك العقود الأربعة الماضية، هي عمر مواسم المدينة هذه الأيام.

حين فاتح محمد بن عيسى العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني بشأن مشروعه، كان رجل أصيلة يعرف طبيعة النظام السياسي في المغرب وطباع ملكه. ربما تهيّب الرجل أمر ذلك، لكنه حين حظي بدعم الملك ووليّ عهده آنذاك، ملك البلاد الحالي محمد السادس، أدرك أن خياره لأصيلة مغربي النكهة يغرف من تقاليد عريقة متراكمة في الوصل ما بين القصر العلوي وهمهمات ناس المدن.

لم يشترط القصر شيئا، لكن مغامر أصيلة عرف أن أشرعة سفينته التي نالت نسمات ملكية عليها أن ترسو داخل موانئ البلاد في عاداتها ولغتها وإيقاعاتها ونسيجها ونظامها وقواعد العيش داخلها. فكّك بن عيسى رموز ذلك وراح يرسم تعويذاته داخل المدينة ومواسمها.

لم تكن المدينة تعزف سيمفونيات الشعر والثقافة والأدب والفن فقط، كانت أيضا تنفخ رياحا مزعجة أيقظت سفارة هذه الدولة أو تلك. لكن الغرابة التي تشبه المغرب أن أمر الامتعاض الدبلوماسي اعتراضا على حضور أو قول أو موقف لهذا الوافد أو ذاك، لم يرق إلى أن يكون شأنا تعالجه وتقاربه وزارات الرباط، فتلك كانت وظيفة أصيلة وربانها، ذلك أن عناد بن عيسى في حماية ضيوفه وصون حرية الرأي والتعبير لهم كان أصلب من القواعد المنسوجة في علاقات العالم مع الرباط.

والمفارقة أن عواصم القرار، وأغلبها إقليمي، التي كانت تتحفظ وتعترض، اعترفت بأن لأصيلة فرادتها وتميّز أوراشها عما هو رسمي يمّثل مزاج الدولة وملكها. يكفي للمراقب أن يمسك بدفتر أصيلة على مدى أربعة عقود ليلم على نحو شامل بكافة المسائل والهواجس والملفات والأمزجة التي رانت المنطقة والعالم خلال هذا الزمن.

إلياذة مغربية

سيكتشف الباحث في أوراق أصيلة تحوّلات هذا العالم وانفراط حدوده بين شرق وغرب. ضجّت جدران المدينة بأطروحات اليسار واليمين وبأخبار شيوعية تترنح ورأسمالية تفاخر بنهاية التاريخ. ستتسرب من نقاشات المواسم وقائع انهيار الأيديولوجيات وانقراض القومية والأممية وسقوط الأيديولوجيا واندثار العقائد.

وستفرج قاعات الجدل عن أورام تظهر خلسة وتتضخم لتنفجر بوجهنا منذ أن ترجل “ربيع” المنطقة الذي لا ينتهي. سيقلب الفضوليون وجوه أصيلة، منهم من هو بيننا ومنهم من رحل عنا، شخوص كبرى في الرواية والأدب والصحافة وعوالم الفن التشكيلي والموسيقى.

يتذكر بن عيسى أسماء كبرى مرت في أصيلة؛ لطفي الخولي وسعد الدين إبراهيم وإميل حبيبي وأدونيس والكثير من الشعراء العرب والمثقفين الشيوعيين والقوميين والليبراليين، أتوا وتحدثوا بكلّ حرية، وشهدت كتاباتهم عن أصيلة بذلك. سيكتشف الواصل حديثا إلى المدينة كم التصقت على جدرانها مشاهد وألوان وخطوط مغروزة تحاكي مياه البحر الكبير.

ليس موسم أصيلة الأول، كما الموسم الأربعون، مشروعا حالما يحاكي السحاب المرتفع. استدعى بن عيسى فرسان الأرض نحو مدينته ليس ليكونوا فاتحين. أراد الرجل أن تبتسم جدران مدينته على أيدي كبار حرفيي الفن الآتي من بعيد. استقبل في دارته أول حفنة من التشكيليين المغامرين أحاطهم بأطفال المدينة فراحوا ينشدون سويا أولى الإلياذات التي لم تنقطع مذاك عن جدران المدينة.

يحب عمدة أصيلة لغة الحجر الذي تقام على أساساته جدران المدينة، لكنه رجل بشر لا حجر. هو يستدعي الثقافة ليس من أجل الفرجة وضجيج المواسم الراحلة، بل لأنها ترفد التنمية في أصيلة وأهلها. كبرت المدينة كثيرا خلال أربعين عاما، لكن نضجها فاق كثيرا العقود الأربعة. تناسلت أصيلة وارتقى شأنها مرفوعا على أكفِّ من كانوا أطفالا حين أفاقوا على المواسم الأولى وما زالوا مواكبين للمدينة موسما بعد آخر. تنصت لأطفال المواسم الذين كبروا بعد أربعين عاما وهم يتحدثون عن مغامرتهم المثيرة مع مغامرهم الكبير. لا تغادر الطفولة عيون هؤلاء، هم فرحون بك، بينهم فرحهم بما أصبحت عليه مدينتهم من شهرة وشأن.

هي الثقافة من أجل التنمية يردد محمد بن عيسى. لا ينسى الرجل أنه سياسي عتيق ويدرك أن قيادة المجتمع والاهتمام بالشأن العام يتطلبان محاكاة هموم الناس في تفاصيلها. أراد بن عيسى أن لا تكون المواسم شأنا نخبويا فيه فوقية فجّة، بل عيدا سنويا لأهل المدينة واحدا واحدا. كل من في أصيلة يعرف المواسم وكان وما زال واحدا من العاملين بها. تدفقت وجوه أجنبية كثيرة على المدينة، بعضها أغرته المواسم وراودته أفكار “البزنس” التي توفّرها طبيعة أصيلة ومناخ المغرب. وفي ما تدافع من عروض ما كان يسيل له اللعاب، غير أن في طباع من قرر أن لأصيلة مواسم ما يقاوم بسهولة كل المغريات.

أراد بن عيسى أن تكبر أصيلة وأن تبقى بسيطة في كبرها. لن تكون مدينة أصيلة “أصيلة” إذا ما اجتاحها الإسمنت ونبتت داخلها أبراج الفنادق ومراكز التسوّق. مازالت أصيلة بعد أربعين عاما بسيطة ينساب الناس في أزقتها بما يشبه الخجل والخشوع، فيما يغزو الساهرون بكثافة مقاهيها الصغيرة ومطاعمها الهادئة المنتشرة على الخط المواجه للبحر الكبير. لأصيلة نكهات مغربية تغرق جذورها عميقا في بطن التاريخ ولن تكون كما هي إذا ما أتت حداثة المال والإسمنت ومعابد العولمة لتغتال عفوية المدينة وغرائزها.

يكفي للمراقب أن يمسك بدفتر أصيلة على مدى أربعة عقود ليلمّ على نحو شامل بكافة المسائل والهواجس والملفات والأمزجة التي رانت المنطقة والعالم خلال هذا الزمن. سيكتشف الباحث في أوراق أصيلة تحوّلات هذا العالم وانفراط حدوده

تتحمل أصيلة أن تكون متطلّبة في ما تريده من المواسم. وتحتمل المدينة أن تكون مغامرة القادمين إلى ربوعها صيف كل عام أكثر جرأة وأكثر ارتقاء في مضمون ما يحمله القادمون وفي خطاب ما يرومه القائمون على الموسم السنوي.

بدا أن بن عيسى يريد للمواسم أن تكون ملتقى لا تخرج عنه أوراق أكاديمية صارمة، فالهدف في منتهاه إنساني يتوسّل تفاعلا بشريا متخّصبا بسلوك غير متكلف يجمع ما بين الجدل ومتعة الارتخاء. على هذا كثيرا ما أصاب بعض المداخلات عجلة فيها الكثير من الارتجال و”حواتيت” المقاهي، وعلى هذا أيضا تسرّبت من القول المباح أبجديات تشبه الظاهرة الصوتية الملتصقة بسمعة العرب كجماعة وأسلوب تعبير. وعلى هذا أيضا خرجت من سقوف المواسم نصوص مكتوبة ومحكية تنمّ عن عمق يضاهي في مادته ما تنتجه كبرى الأكاديميات في العالم.

ربما هذه هي روحية أصيلة؛ هي ذلك الاندفاع الغرائزي الذي يحيل الزائرين أهلا للمدينة مع أهلها الأصليين. يسهل أن يتنبه الزائر بسهولة إلى أن أهل المدينة يمارسون على نحو ربما بيولوجي دورهم المواكب لمواكب الوافدين. أصحاب المقاهي يقبلون فرحين على التنقل بين الضيوف المنهمكين في رصف نقاشاتهم بهمّة كاملة خارج جدران القاعات وداخل أسوار المدينة وعلى حواف شواطئها. أهل المكان حراس المواسم عيونهم تراقب بسكون وجوه التائهين، فيما آذانهم تطرب لتلك اللغات واللهجات واللكنات التي تُعزف تحت سمائهم كما الثرثرة التي تحملها أمواج المحيط إلى رمالهم.

لا أدري من هم الوافدون هذا العام. قد تكون أليف شافاك التركية صاحبة “قواعد العشق الأربعون” بين تلك الأمواج التي ستداعب رمل المدينة هذا العام. ألم ينظم بن عيسى خلال أربعين عاما قواعد لعشق أصيلة.