تغيير ملامحها وحجب ثقلها الرمزي..

تفريغ القاهرة.. معرض الكتاب وداعا

ندوات المعرض سابقا

سعد القرش

بسحب معرض القاهرة الدولي للكتاب إلى منفى في أقصى طرف للعاصمة، يسهل أن نقول للمعرض الذي نعرفه “وداعا”، وأن نرى هذا القرار خطوة صريحة لتفريغ القاهرة، بتغيير ملامحها وحجب ثقلها الرمزي ونزع محتوى عمقها التاريخي، ضمن خطة بدأها الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتستأنف الآن، بإسراع يتناسب مع طغيان مدّ الموجة الثانية للقوى المضادة لثورة 25 يناير 2011، فقد تم تجفيف العاصمة من أكبر منتدى للغاضبين الحالمين بالتغيير والحرية، وكان ذلك المنتدى يمتد من شارع شامبليون ويتماس مع ميدان التحرير، ويتقاطع مع ميدان طلعت حرب وشارعي هدى شعراوي وصبري أبوعلم، وصولا منه إلى شارع الشريفين حيث منطقة البورصة التي كانت عامرة بأكثر من ثلاثين مقهى، وروادها من كافة الأعمار والطبقات الاجتماعية. وأطفأ قرار إغلاق المقاهي روح المكان، وعلى اتساعه يضيق حاليا بالذين يصدق فيهم قول عدلي يكن (1864 – 1933) “مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر”.

في بداية الفترة الرئاسية الأولى لعبدالفتاح السيسي (2014) أغلقت قوات الأمن مراكز التجمعات. نفذ القرار بخشونة تبطنُ ثأرا من انكسار الشرطة في 28 يناير 2011 “جمعة الغضب”. وكان عام 2013 قد شهد غلظة قانون حظر التظاهر، وهو قانون غير دستوري لئيم يتجاهل مظاهرة ترعاها الشرطة لجموع من البلطجية، واسمهم الرمزي “المواطنين الشرفاء”، يسبّون الصحافيين أمام نقابتهم، ولكنه يتيح معاقبة شاب دافع عن فتاة في مظاهرة، ولا يردع شرطيا جهولا يستخدم سلاحه في مواجهة بضعة أفراد في وقفة سلمية بميدان طلعت حرب، عشية 25 يناير 2015، فيقتل المواطنة شيماء الصباغ، وهي تحمل طوقا من الورد.

في مهرجان الفيلم الوطني المغربي بطنجة، ومهرجان وهران للفيلم العربي، كنت أفرح بجمهور البلدين وهو ينتظر النجوم، على جانبي الشارع المؤدي إلى الحفل، حضور يصنع حالة من البهجة. أما الذهاب بالمشاركين من ضيوف ونجوم في سيارات من الفنادق والفيلات إلى قاعة تشبه المنفى، فيبعد المشاركين عن جمهور أحبهم وأسهم في صنعهم. وفي نوفمبر 2017 كتب الكثيرون عن معاناتهم في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي بمركز المعارض بالتجمع الخامس، حيث سيقام معرض الكتاب في يناير 2019. معاناة يشعر بها أي حر لا يعتاد على الارتهان في القشلاق. وانتقص نقل الحفل إلى المنفى من بهجة سنوية تلازم حفلي الافتتاح والختام في منطقة الأوبرا، ويشعر بها عابرو كوبري قصر النيل ورواد وسط البلد في الضفة الأخرى للنيل حيث ميدان التحرير.

يبدو مركز المعارض في منفى التجمع الخامس أكثر ابتعادا عن صداع مجانين يسمونهم المثقفين، لا يعجبهم العجب ولا سلطان عليهم إلا ضمائرهم، ويصور لهم خيالهم أنهم سيغيّرون العالم. ولكن سلطة تهزها صيحات الحناجر لا تحتمل تجمعات ولو في معرض للكتاب، وقد علمتهم التجربة أن عاصفة 25 يناير 2011 بدأت بالعشرات يهتفون “تغيير. حرية. عدالة اجتماعية”، وسرعان ما سرت الصيحة، وصعدت إلى البيوت فأنزلت الملايين، وصنعوا في جمعة الغضب سدودا منيعة صمدت لمئات الآلاف من جنود الشرطة التي أطالت عمر نظام مبارك، وفي ست ساعات انهار الجنود.

في يناير 2005، أحصيت في معرض القاهرة للكتاب 21 مصفحة للشرطة، يهبط منها جنود ليحاصروا متظاهرين محاصرين داخل أسوار أرض المعارض، ولا يملكون إلا حناجر تهتف “يسقط يسقط حسني مبارك”، “يا جمال قل لأبوك: شعب مصر بيكرهوك”. صيحات لا تبلغ الشارع، ولا تصل إلى البوابة. كنا نعزي أنفسنا، والنظام المرعوب لا يسمح بأي مخاطرة، ويطفئ الشرارة قبل اشتعالها. ودخل فتحي إمبابي خيمة المقهى الثقافي، فقالت لي صديقة عربية شقراء إنها سمعت موظفا في الهيئة العامة للكتاب يعد ضابطي أمن، يرتديان ملابس مدنية، بتسليم فتحي إليهما.

سمعت ولم تلتفت، وظنوها أجنبية لا تعرف العربية، وأرجأوا القبض عليه في حضورها. أبلغت فتحي إمبابي بالخديعة، وأعددنا خطة سريعة، فخرج بصحبتي وصحبتها، ولم يقتربوا منه في وجود سيدة أوروبية. وتبعونا حتى البوابة في شارع صلاح سالم، واستقل فتحي حافلة صغيرة. ثم عدت وتصفحت نشرة معرض الكتاب، وفيها موضوع “احتلّ” ثلاث صفحات، بثلاث صور مختلفة لجمال مبارك أمين السياسات بالحزب الوطني، مع عناوين: خطة متكاملة للنهوض بالعمل الشبابي في مصر، إنجازات شباب الحزب الوطني.

في الأيام التالية، فبراير 2005، كان سلم نقابة الصحافيين يستضيف مظاهرات دائمة. العشرات من المتظاهرين في الأعلى، وفي الأسفل مئات من الجنود يقودهم ضباط، وفي شرفات وأسطح البنايات المواجهة قناصة ومصورو الشرطة. وكانت الهتافات تدوي ضد مبارك وابنه، “باسم 7 مليون عاطل.. ترشيحك يا مبارك باطل” مع اقتراب موعد ترشحه لانتخابات 2005، وهناك هتاف نبوءة “فاضل على حسني زقة.. والسكة مش طويلة.. وهنخلص منه في ليلة.. لو كلنا قلنا لأه”، واختمرت الصيحات خلال خمس سنوات.

تفريغ العاصمة بدأ آنذاك، بتقطيع أوصال المدينة، والربط بين جُزرها بجسور ترتفع على جانبيها عوازل إسمنتية أشبه بأنفاق علوية. ولا يتعلم من حرمه الله نعمة الخيال أن الجدران الأسمنتية العالية تسقطها الإرادة، ففي مساء 9 سبتمبر 2011، حفرت الثورة مجرى مفاجئا، هو التحول الأكبر منذ “جمعة الغضب”.

كان ميدان التحرير قد خلا من الإخوان ومن أي شعار طائفي أو ديني. ثم تحركت الحشود بعفوية، نحو السفارة الإسرائيلية المطلة على النيل وجامعة القاهرة. الواقعية تفترض أنهم سيتظاهرون أمامها، فوق كوبري الجامعة، احتجاجا على اعتداء جيش العدو على جنود مصريين على الحدود المصرية الفلسطينية. ولكن الخيال الثوري ذهب بعيدا، وحطم الجدار، وتمكن شاب من الصعود، أنبتت له الثورة أجنحة فتسلق البناية وأنزل علم العدو، وهرب السفير الصهيوني، ثم نقلت السفارة.

لو حسنت النية لتم تطويع ميدان رمسيس ليناسب التمثال الشامخ لرمسيس، ولكن نفيه إلى متحف تحت الإنشاء عند الأهرام جزء من إخلاء المدينة، وكان نقله مثيرا للعجب، في رحلة استمرت من الواحدة فجر الجمعة 25 أغسطس 2006 حتى الظهر. منذ عام 1954 وقف التمثال في قلب العاصمة وتدا أزليا لخيمة تحرس التاريخ. وليلة نقله ودعته الحشود بالدموع.

واكتمل التفريغ بنقل مجموعة توت عنخ آمون من المتحف المصري بميدان التحرير إلى مشروع المتحف، وأهدرت فرصة أهدتهم إياهم الثورة باشتعال النار في المبنى القبيح للحزب الوطني، وهدم المبنى الذي ظل حائلا دون إطلال المتحف على النيل، ولو خلصت النية لأجريت مسابقة لتعديل المتحف المصري بالاستفادة بالمساحة الجديدة بدلا من تبديد ذاكرته.

أرض المعارض وسط العاصمة في متناول رواد المترو، وساءت كثيرا في السنوات الأخيرة، ولا يكون العلاج بتجاهل المرض والاكتفاء بنقل المريض. وإلى أن يعاد تأهيل أرض المعارض، يمكن إقامة معرض نموذجي للكتاب في حديقة قصر عابدين، أو ساحة دار الأوبرا وكانت تسع المعرض من قبل، بشرط أن يكون المعرض للكتاب فقط، لا لعروض المسرح والسينما والأراجوز، والكلام عن تراجع الأغنية الفصحى وأزمة السينما ومشكلات الفرق المسرحية المستقلة ومستقبل كرة القدم وقضايا البحث العلمي.

كلام يتاح طوال العام، ولا يصح أن يزاحم الكتاب في عيده. سيكرم المعرض اسمي وزير الثقافة السابق ثروت عكاشة وسهير القلماوي أول رئيس للمعرض، فبها بدأ وبها سينتهي، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال.