شرف يستحقه الكاتب..

تحرير الكتب غير تلفيقها!

يتوجّب إدامة الصلة بين المحرّر والكُتّاب لضبط إيقاع الكتابة

لطفية الدليمي

لا شكّ في أنّ مواقع التواصل الاجتماعي وفّرت منصّات مهمة يمكن الانطلاق منها للحصول على متابعة قرّاء كثيرين والتواصل مع زملاء ومنصات نشر بطريقة ما كان يمكن الحلم بها قبل سنوات قليلة مضت، وتلك واحدة من الحسنات الكثيرة التي لا يمكن تجاهلها وبخاصة مع كتّاب في بداية عهدهم بالكتابة؛ غير أنّ مواقع التواصل لا تخلو من منغّصات كثيرة في الوقت ذاته، ولعلّ أهم تلك المنغصات فيوض الرسائل الخاصة التي لم يجد الكثيرون حرجا في إغراقك بها متى شاؤوا وبطريقة مجانية لا تستدعي اللجوء إلى الرسائل الخاصة، فملؤوا الصناديق بسيل من الفيديوهات والتضرعات والأدعية والتعميمات الشعبوية.

 تأتيني عبر بريدي الخاص بين الفينة والأخرى رسالة من كاتب شاب مبتدئ تميزه من صياغة عباراته يطلب الإجابة على قائمة من أسئلة تتراوح بين العشرة والعشرين سؤالاً في الغالب ولا تدور حول محور محدد، ويخبرني أن إجابتي ستنضمّ لإجابات مجموعة من الكتّاب وتظهر في كتاب يعمل ذلك الكاتب على تحريره!. قد تختلف الصيغة قليلاً بين طلب وآخر لكنها لا تخرج عن نمط بين نمطين اثنين: الإجابة عن مجموعة من الأسئلة أو الكتابة عن ثيمة محددة ومكررة غالبا (مقطع مستعاد من سيرتك، من الطفولة، مشاهد من الذاكرة، لماذا أكتب؟ الكتب التي أحب، لمن تكتبين؟ بمن تأثرتِ من الكتّاب؟… الخ).

ثمة خطأ مفاهيمي كبير في أصل مفهوم (تحرير) كتابٍ ما: ينبغي بدءًا أن ينهض بعبء تحرير أيّ كتاب كاتب حجّة وثقة يعدّ مرجعية معتمدة في تقديم المادة التي يتأسس عليها الكتاب المُحرّر، وأن يتمحور الكتاب على مادة ذات قيمة معرفية مهمة وغير مسبوقة غالبا، وأن يجتهد محرّر الكتاب في توزيع تلك المادة المعرفية على محاور محدّدة بحسب طبيعة المادة، ومن ثمّ يتوجه بالكتابة إلى كتّاب معتمدين يُعدّ كلّ منهم مرجعية في ميدان تخصصه عن ذلك المحور المحدّد بذاته، وبعد كلّ هذا يتوجّب إدامة الصلة بين المحرّر والكُتّاب لضبط إيقاع الكتابة وضمان انسيابيتها في المسار المطلوب لها، وواضح أنّ مثل هذا الجهد الذي يبذله المُحرّر هو جهد جبّار لا يقوى على النهوض بأعبائه سوى المتمرّس ذي الخبرة الرصينة والسمعة الراسخة والألمعية المعترف بها على نطاق واسع.

سيكون مفيداً في هذا السياق الإشارة إلى مثال تطبيقي عن الكتب العالمية المحرّرة الممتازة: سلسلة (كتاب كامبردج المرجعي Cambridge Companions) في شتى الفروع المعرفية وأرى السلسلة مثالاً راقياً للأنموذج الذي تكون عليها الكتب المحررة الرصينة؛ إذ يضطلع كلّ كتاب منها بمهمة تحريره محرّر علم في ميدانه، ويساهم في كتابة فصول الكتاب كُتّابٌ أعلام لا يقلون عن المحرر خبرة، وثمة بصمة تحريرية مميزة للمحرر وجهدٌ مشهودٌ يعرفه ويتحسّس تفاصيله ومكنوناته كلّ من خبر فنون الكتابة بدءًا من كتابة مقدمة تمهيدية لائقة ثم تزويد الكتاب بجدول كرونولوجي (يختص بالتطورات الزمنية) لأهم الوقائع والانعطافات المفصلية التي حصلت في ذلك الفرع المعرفي، ولا يخلو كتاب من كتب كامبردج المرجعية من فصل أو أكثر كتبه المحرر ذاته أو ساهم في كتابته مع مؤلف آخر.

الكتابة الجادة شرف يستحقه الكاتب المُجيد مثلما هي مسؤولية ترتّب على عاتقه أقسى التبعات؛ أما من ينتظر الاعتياش السهل على تجميع كتابات الآخرين التي لا رابط بينها تحت أخدوعة (تحرير) كتاب (ملفق) يفتقر إلى المنهج والسياق الواضح لأطروحة ثقافية محددة؛ فعليه أن لا يتوقّع نيل شيء من ذلك الشرف المُرتجى.