لمن نترك كتب التاريخ..

معظم الشباب لا يقبلون على قراءة مضامين قوية وقراءات دسمة

العالم الرقمي يغزو عقول الشباب

رابعة الختام

فورة المعرفة وحب الاطلاع كالقدر التي يغلي ماؤها ويفور، فلا يهدأ بغير النيل من نور نارها والقبس من وهجها.

للأسف الشديد معظم الشباب الحالي في عصر الرقمنة والهواتف النقالة والأجهزة الذكية والألواح الرقمية، لم يعد يقرأ الكتب، مكتفيا بألعاب الفيديو والدردشة، هذه حقيقة لا يمكن الفكاك منها مطلقا، القليل فقط هم من يواجهون التطورات التكنولوجية والحراك الاجتماعي والثقافي من حولهم بالبحث عن المعلومة الصحيحة. إلا أن الغالبية العظمى تظل في سباق الجلوس بالساعات حول شاشات أجهزتهم الذكية لضياع الوقت في ممارسات لا طائل منها.

معظم الشباب لا يقبلون على قراءة مضامين قوية وقراءات دسمة بل يبحثون عن ألعاب الفيديو، وقلة قليلة تقرأ لكن تهتم بقراءة الطالع والأبراج ومضامين خفيفة وهشة للغاية، حتى بعض الذين روجوا لقراءات الشباب على أنها تجاوزت معدلات كبيرة للروايات لم يتيقنوا من أعداد القراء وفق دراسات وإحصائيات دقيقة، عن الفئة العمرية للقراء. بعض الروايات التي كُتب لها حظ وفير من الانتشار نالته بعد أن تحولت إلى أفلام سينمائية وأعمال درامية مسلسلة مما يدعم كون القراءة لم تعد الخيار الأفضل لدى الشباب وسبقتها نشاطات أخرى.

من ذا الذي يملك لملمة مشاعر الحزن والإحباطات بعد بعثرتها في الأزقة والطرق غير قراءة رواية تمنحك حرية بحجم الكون، وتفتح زنازين القلب الحزين على سماوات بألوان الطيف.

أحزنتني شابة سألتها “ماذا تقرئين؟”. فقالت “ودعت الكتب يوم تخرجي، كانت ثقيلة على قلبي”. وتعترف بكل فخر وزهو أنها لم تقرأ يوما كتابا خارج المناهج الدراسية، كثيرات تشاطرنها هذا الزهو. حديثي معها شغلني بأحوال أمهات المستقبل، ومصير جيل لا يقرأ. حقيقة أن هذه الشابة لا تمثل جيلها لكن تعبر عن السواد الأعظم منه. لديّ يقين ثابت غير قابل لزلزلته بأن قراءة رواية من شأنها تغيير الحالة المزاجية للأفضل، وبالطبع لا يخفى على أحد أن مواجهة الأزمات بمزاج رائق تساعد على تخطيها وتخطي الكثير من المنغصات الحياتية. وهذا ما تفعله بنا القراءة حين تصفي النفوس ممّا يعلق بها من شوائب.

أقترح على أصحاب الأعمال ومالكي المؤسسات منح موظفيها فرصة للقراءة في منتصف اليوم هربا من ضغوط العمل، بل توفير مكتبة صغيرة بكل مؤسسة في ركن هادئ، أو غرفة غير مستخدمة. فكما تحرص المؤسسات على توفير منصة لتقديم المشروبات وغرف خاصة بالمدخنين، فعليها توفير منصة للمطالعة والقراءة وتخصيص وقت لها واعتباره ضمن وقت العمل.

فنجاح أي مؤسسة أو منظومة يتوقف على قدرة أعضائها على فهم الواقع، وربط الحاضر بالتاريخ، وتحليل المعطيات للوصول إلى أفضل النتائج، وهذا بالطبع لن يحدث دون الإقبال على القراءة وبصفة خاصة قراءة كتب التاريخ، وتحليلات كبار خبراء الاقتصاد، وكل مؤسسة تطلع موظفيها حسب نشاطها الاقتصادي.

قراءة مشهدية اليوم وكشف اتساقها مع التراث والموروثات الشعبية والبيئية لا يتحققان بغير المعرفة الدقيقة لمعطيات الماضي ودروسه وتحليلها تحليلا دقيقا.

تفعل القراءة بالإنسان ما لا تقدمه له برامج التلفزيون بالطبع، ووفقا لموقع ميديكال نيوز توداي المتخصص في نشر الأخبار الطبية والعلمية فإن للقراءة فوائد صحية كثيرة، كما كشفت دراسة بحثية أجراها باحثون بجامعة ساكس البريطانية عن أن القراءة تقلل من الضغط النفسي والعصبي المسبب لحوالي 60 بالمئة من الأمراض الفتاكة وعلى قمتها السكتة الدماغية وأمراض القلب والشرايين، ومن شأنها تثبيط التدهور الإدراكي والمعرفي المصاحب للتقدم في العمر وتكون بمثابة تمارين رياضية ذهنية لتنشيط وتدعيم الذاكرة بإيجابية فاعلة تقيها الخرف والزهايمر وكل الأعطاب التي يمكنها نحر الذاكرة وتجريف العقل من مخزونه المعرفي.

كما هو راسخ في الوعي الجمعي فبعض الأمثال الشعبية تحبب القراءة، فجداتنا لم يكن يكففن عن ترديد عبارة “الكتاب خير جليس”، كما قال جورج برنارد شو، “القراءة جعلت دونكيشوت إنسانا محترما، لكن تصديقه ممّن قرأه جعله مجنونا”.

وذلك المثل الصيني الذي حمل خلاصة حكمة صينية يقول “القراءة بلا تأمل كالأكل بغير هضم”. وكما قال كونفوشيوس “مهما كنت تعتقد أنك مشغول، لا بد أن تجد وقتا للقراءة، وإلا سلّم نفسك للجهل الذي قضيت به على نفسك”. وكان أرسطو يحكم على البشر من خلال قراءاتهم، فقد سئل “كيف تحكم على إنسان”، قال “أسأله هل يقرأ وماذا يقرأ؟”. وقال نزار قباني “إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب”.

كما أفادت أبحاث حول النوم بأن القراءة تحسّن من نوعية النوم وتعزيز القدرة على النوم الهادئ والعميق، إذ أن قراءة كتاب تساعد على الاسترخاء والانتقال السريع بين اليقظة والنعاس، أو الغفوات المريحة للتخلص من توتر الأعصاب، ولو كانت غفوات قصيرة سريعة متفرقة. الكتاب هو الصديق الوحيد الوفي الذي لا يعرف الغدر.