دقائق وداع..

لم أكره الغربة

الغربة تحولُ دون ارتباطك بأي شيء

القاهرة

على الرغم من أن سنين غربتي تعادل تماما سنين عمري؛ لكوني من أولئك الذين ولدوا في أوطانٍ غير أوطانهم ونشؤوا فيها، إلا أنني لم أكره الغربة، أو أدرك شيئا من مرارتها في سن صغيرة، بل كانت الغربة بالنسبة لي هي محضن الذكريات، ورفقة العمر، ونافذتي إلى مختلف الثقافات، آلفتُ فيها أكثر مما ألفت في وطني، وكنتُ فيها أكثر قدرة على التأقلم والتكيف مع كل تجربة جديدة في معية أبي وأمي.
كنت أكثر ما أكره في صغري دقائق الوداع القصيرة في المطار قبل كل رحلة عودة من عطلة الصيف التي كنت أقضيها وأسرتي في مصر في نهاية كل عام دراسي، لُقِّنْتُ في سن صغيرة كيف أُلَوِّح بأصابع يدي الصغيرة مودعةً أقاربي في مصر في نهاية كل عطلة، وانفطر قلبي مرارًا وتكرارًا في كل مرة كنت أرى فيها جدتي الراحلة، تودّع أمي باكيةً تقول: سأراكم العام القادم إن مد الله في عمري، فيتعانقان وكأنه الوداع الأخير في كل مرة.
عرفتُ الغربة بوجهها القاتم المقيت بعد زواجي وانتقالي للعيش مع زوجي في بلد آخر جديد أبدأ فيه من الصفر، بلا خبرةٍ مُسبَقة، وبلا عونٍ من قريبٍ أو بعيد، أنا وزوجي منفردان نُحاوِل جاهدَين أن يكتفي كل منا بالآخر بكل ما أُوتِينا من الحِيَل؛ كي نملأ فراغ الأهل والأصدقاء.
إنها غربةٌ بمعناها الحق الذي لم أُدرِكه من ذي قبل حين كنت أعيش مع أهلي، وإن كنا في بلدٍ غير بلدنا، غربةٌ بمفهومها البسيط في أن تكون بعيدًا عن كل ما تعرِف وكل مَن تعرِف، لا تملِك فيها خيارًا سوى أن تكونَ قويًا صلبًا، تتجاوز مُنفَرِدًا كل أزماتك وكل حاجتك إلى الشكوى والمواساة والتوجيه، تتظاهَر دوما أنك بخير فتحبس غُصة البكاء وتتفادى رعشة الصوت في كل مرة تُهاتِف فيها أهلك؛ كي لا يتسلل إليهم شيء من القلق فتنهال عليك أسئلتهم الاطمئنانية، ماذا هناك ؟ هل كل الأمور بخير؟ وما شابهها من الأسئلة التي تجعل حبس غُصة البكاء أكثر إيلامًا وحرقةً! 

رغم يقيني بأن لكل مغتَرِب حكايته وتجربته الخاصة في غربته إلا أن غياب الأنس، ووحشة الأهل والأحباب تبقى مُعاناة مُشتركة                                                                                               

ففي كل مرة تسألني أمي: "كيف حالك؟" تكون إجابتي دائمًا قصيرة ومقتضبة ينقُصها كثيرٌ من التفاصيل وكأنني أدرِّب نفسي على التظاهر بعكس ما تشعُر به مخافةَ أن تتمرد عليّ فتبوح بكل مخاوفها ومكنونها، وفي كل مرة تقول لي: "وحشتيني"، أوجِّه الحديث عن عمدٍ إلى بعضٍ من أحداث يومي وتجاربي في الطهي هروبًا من تلك الغُصة التي تحرق حلقي كلما أردت أن أُجيبها: "انتِ وحشاني أكتر".
بعد مرور ثلاث سنوات من الغربة، ألِفت كل أوجاع الوِحدة، وربحت معركتي مع الخوف باعتياده، وروضت نفسي على الاكتفاء بأصوات مَن أُحِب دون حضورهم، وقَلَّصت أوقات فراغي التي تجعلني فريسةً سهلةً لفِكري وقلقي إلّا أنّ نجاحاتي هنا - وإن عظمت - لم تُبدّد وحشة البُعد، وانبهاري بكل الأماكن التي زرتها لم يزعزع إقراري بأن جمال بيتنا في دفئه لا يُقارن بأي جمال آخر، ومذاق الطعام وإن تعدّدَت أصنافه وأشكاله لا يُضاهي مذاق الطعام الذي تُعدّه أمي، واستمتاعي بحديث أحدهم - وإن كان ذو حظٍ وفيرٍ من الحكمة والمعرفة - لا يُضاهي استمتاعي بأحاديث أبي وتوجيهاته.
أدركت اليوم أن الغربة تحولُ دون ارتباطك بأي شيء، لا بأشخاص، ولا بأماكن، ولا بذكريات؛ لأنك عُرضة للرحيل في أي وقت مُرغَمًا كنتَ أم مُريدًا، سترحل إن طالت غربتك أم قصرت مُخلِّفًا وراءَك تجربتك كاملةً، وحصادك من التأقلم والتكيف وكل ما كلفك ذلك من قوى وصبر ومال لتُعيدَ الكرّة من جديد أيًا كانت وِجهتك.
تعلمتُ في - إنكارٍ شديد - أن ذكريات المغتربين أمثالي ستبقى حبيسة الصور والتِّذكارات التي نحملها معنا أينما ذهبنا إلّا أن الأشخاص والأمكنة ستبقى عابرة.
رغم يقيني بأن لكل مغتَرِب حكايته وتجربته الخاصة في غربته إلا أن غياب الأنس، ووحشة الأهل والأحباب تبقى مُعاناة مُشتركة، ويبقى المُغتَرِب هو بطل حكايته ومحورها الثابِت في كل الفصول مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة.