باللهجة العراقية..

"ظل في بغداد" حين يقف ألم اليهود خفيفا في حضرة القسوة

فيلم يصوّر حنين يهود العراق إلى وطنهم الأصلي

فاروق يوسف

“مفقود” صفة تُلصق بالمرء، كما لو أنه كان شيئا أو كما لو أنه لم يعش حياته. تنطوي تلك الصفة الملتبسة على الكثير من الأسى غير أنها قاسية وتجرح حين تكون دليلا للاشيء. فهي لا تحمل المعنى ذاته في كل مرة تُقال فيها. يمكنها أن تجسد نوعا مريرا من الخيانة حين تمتزج بالزمن.

فهي لا تري من الكائن إلا شبحه الذي قد يُرى أو لا يُرى. لا فرق. هو الظل الذي لا يزال يجوب شوارع بغداد حسب ليندا عبدالعزيز التي شاءت الصدفة أن تقودها إلى البحث عن والدها المحامي يعقوب عبدالعزيز الذي اختفى قبل أربعين سنة في شوارع بغداد.

أربعون سنة تفصل بين عامي 1972 حين اختفى ذلك الرجل الذي تحول إلى ظله و2013 حين أصبح بطلا متواريا لفيلم وثائقي بعنوان “ظل في بغداد” من إخراج دوكي درويش درور وتم عرضه قبل أيام في المركز اليهودي التابع لقسم التاريخ والدين والفلسفة في جامعة سوَس بلندن بحضور بطلته.

وإذا ما كان الفيلم يتطرق إلى مسألة حساسة، كثر الجدل من حولها وهي مسألة تهجير اليهود من العراق بعد اقتطاع جزء من أرض فلسطين لإقامة إسرائيل فإنه يأخذ منحى شخصيا حين يعالج علاقة بطلته وهي صحافية يهودية من أصول عراقية تحمل الجنسية الإسرائيلية ولا تزال تحتفظ بأوراقها العراقية بذاكرة المكان الذي غادرته جسديا عام 1973 من غير أن تغادره روحيا، ذلك لأنها تركت فيه أبا مفقودا، تحول مع الوقت إلى أيقونة غير مرئية صارت تلتفت إليها كلما رغبت في النسيان.

تبدأ حكاية الفيلم من اليأس وتنتهي باليأس. فحين تتعرف ليندا عن طريق الإنترنت على صحافي عراقي مقيم في بغداد، كانت حكاية والدها المفقود قد شدته إليها، فإنها كانت تدرك أن البلد الذي محيت أجزاء كثيرة من ذاكرة مكانه لن يعينها على العثور على آثار والدها أو شيء ما يذكر به.

 غير أنها انزلقت إلى اللعبة، رغبة منها في أن تصنع حكاية جديدة مجاورة لحكاية والدها القديمة. وهي حكاية تستحق أن تُروى لما تتضمنه من حقائق، يناقض بعضها البعض الآخر في ما يتعلق ببلد، كثرت فيه أعداد المفقودين وقلت فيه الآثار التي تقود إليهم بعد أن محيت الطرق.

تبدأ الحكاية بلا شيء وتنتهي بلا شيء. وما بين علامتي الخواء هناك ما يستحق أن يُقال أو يُروى بطريقة الكلمات المتقاطعة. ألا يشبه ذلك المصير الشخصي ما انتهى إليه العراق من مصير؟ يمكن القفز على مسألة حنين يهود العراق إلى بلدهم الأصلي التي استغرق الفيلم في شرحها فهي ليست إلا خلفية للعلاقة السرية التي لم تنقطع بين ليندا والمكان الذي غادرته ولم يغادره والدها. تلك علاقة لا يمكن اختزالها بقالب تقليدي هو الحنين.

هناك حياة لا تزال ناقصة تقع بين الوجود والعدم. فالأب المختفي هو إشارة لا تزال تثري الوجود بأملها الوهمي وهو في الوقت نفسه باب مفتوح على العدم الذي لا يذكر بالموت. ذلك لأن ليندا لم تحصل على ما يؤكد أن والدها قد عاش حياته كاملة في ذلك البلد الذي لا تزال تتحدث لغته.

تقول ليندا في نهاية الفيلم الذي استغرق عرضه أكثر من ساعة “العراق بيتي. دجلة نهري والعربية لغتي”.

“ظل في بغداد” فيلم جارح غير أنه رقيق في الوقت نفسه. حزنه خفيف مثل سؤال وجودي كان يوما صلبا مثل حجر غير أن الزمن حوله إلى ريشة بيضاء، ينطوي تحليقها على الكثير من الرغبات الإنسانية التي صار الكثيرون لا يخشون التعبير عنها.

بعد عرض الفيلم أخبرتنا عبدالعزيز أن موقع إسرائيل باللهجة العراقية الذي تشرف عليه قد استقطب أكثر من 90 ألف عراقي، لا تتطابق وجهات نظر البعض منهم مع توجهه الرسمي غير أن هناك ميلا واضحا لدى الكثيرين إلى الحوار الإيجابي، وبالأخص في ما يتعلق بمسألة إعادة الجنسية لليهود العراقيين واستعادة أملاكهم.

وكشفت عن أنها تقود مبادرة لتنظيم رحلات للعراقيين من حملة الجنسيات الأخرى إلى إسرائيل من أجل أن يتواصلوا مع اليهود العراقيين ويتعرفوا على مختلف سبل حياتهم.