على ضفاف النيل

مصر: الزوارق منازل الفقراء

مركب يتسع للحياة بالقناعة

أحمد حافظ (القاهرة)

يعود تاريخ انتشار ظاهرة العيش فوق مياه النيل بالقاهرة لأكثر من 60 عاما مضت، وتتوزع أماكن تواجد هذه الأسر بين العاصمة القاهرة والضواحي، من ورّاق العرب شمالا، إلى حي المعادي جنوبا.

في خمسينات القرن الماضي، لجأت العشرات من الأسر إلى الحياة في القوارب، بعد أن يئست من الحصول على وحدات سكنية، أو فرص عمل، لذا ظهرت في العديد من الأماكن على شاطئ النيل بالقاهرة حياة أخرى، تتكون من رجال ونساء وأطفال وما يمارسونه من طهي واستحمام وغسيل ملابس، الأمر الذي حوّل القارب من مجرّد أداة صيد إلى منزل متحرك. مع بزوغ بشائر فجر يوم جديد، يستيقظ سعيد وأسرته، المتكونة من الزوجة وطفلين، ليتحرك بقاربه الصغير على صفحة النيل في مصر، فالقارب بالنسبة إليه “منزل معيشة متنقلا”، ويظل يسعى إلى الرزق، من خلال اصطياد الأسماك ثم بيعها، للإنفاق على الأسرة، بعد أن ضاقت به سبل الحياة على البرّ.

سعيد، اختار أن يستقرّ ويعيش داخل قارب الصيد طوال حياته، بعد أن ترك حياة البرّ قبل 29 عاما، وكان أبوه حينذاك قد اصطحبه إلى القاهرة قادما من محافظة المنوفية (في دلتا مصر)، وهو في الثانية من عمره، إلى أن استقرت به الحياة على مركب صغير على ضفاف النيل، بحي ورّاق العرب في محافظة الجيزة المتاخمة للقاهرة. بعدما توفي والده، أصبح القارب ملكا له، فليس ثمة ما يورثه مثل هؤلاء الآباء لأبنائهم، إلا مهنة الصيد، والحياة فوق ماء النيل. يعيش سعيد وأسرته الصغيرة حياة وديعة هادئة، وعلى عكس غالبية المصريين، الذين يشتكون من صعوبات الحياة، وارتفاع الأسعار، وزحام الشوارع، يجلس هو إلى جوار أبنائه، قنوعا وراضيا بحاله.

عيش صعب لكنه غير مستحيل

قال لـ”العرب”، إنه أفضل من غيره بكثير، رغم أن صديقه الوحيد ورفيق دربه في حياته حاليا، هو نهر النيل وما يحويه من أسماك، إلى درجة أنه أصبح يرفض العمل بأيّ مهنة سوى الصيد. هؤلاء الناس جميعا، سواء الآباء أو الأبناء، لا يريدون العيش بعيدا عن النهر، وينظرون إليه باعتباره صاحب الفضل عليهم طوال الحياة، فهو الذي احتواهم واحتضنهم عندما أغلقت في وجوههم كل السبل.

ميسورة ومستورة

وأضاف “تغربنا جميعا سعيا وراء لقمة العيش، وترك الجميع منازلهم وعائلاتهم في المحافظات المختلفة، وفررنا إلى القاهرة، لعلنا نجد فيها عملا يضمن لنا حياة ميسورة ومستورة، ثم استقرّ بنا الحال في تلك القوارب الصغيرة حيث نعيش، ونعمل، ومن النيل نسترزق، وهكذا أصبح النهر محور حياتنا”. إذا كان الغنى والفقر سُنة الحياة، سواء على البرّ أو فوق سطح الماء، فإن سكان القوارب الصغيرة، لا يعيرون اهتماما لزائري وسكان البواخر العائمة في النيل، بمطاعمها السياحية الفاخرة، وخدماتها الراقية، وأطعمتها الأوروبية، حتى وإن كانت المسافة التي تفصل بين البواخر والقوارب لا تتجاوز عدّة أمتار، فالرضى بالقليل سمة غالبة على سكان القوارب.

حياة النيل حرمت سعيدا من التعليم، لكنه يؤكد أن “التعليم ليس فقط القراءة والكتابة، لأن خبرة الحياة، وتجاوز صعابها، وحسن التعامل مع الناس، بالنسبة إليّ هي التعليم الأمثل، فالكثير ممن ذهبوا إلى المدارس والجامعات وقضوا بها سنوات، وأنفقوا الآلاف من الجنيهات على التعلّم، تخرجوا وهم يجهلون أسس الحياة، ومنهم من فشل في البحث عن وظيفة أو زوجة؛ فما قيمة التعليم إذا لم يخدم صاحبه في تجاوز الصعاب والأزمات؟”.

تلك قناعة ترسخت بداخل سعيد منذ الصغر، وكبرت معه إلى أن بلغ الآن عامه الثلاثين، لكن لم تمنعه من أن يلحق ابنته سارة بمدرسة حكومية في محافظة المنوفية، حيث تعيش والدته وحيدة بعد وفاة والده، لأنه “لا يريد أن يظلمها بفقره، أو يعيّرها زوجها في المستقبل بأنها جاهلة، أو أنها لا تجد لنفسها مكانا في المستقبل، وسط مجتمع أصبح ينظر إلى المظاهر أكثر من أيّ شيء آخر”.

على كل حال، فإن أرباب الأسر، الذين يسكنون القوارب بشكل عام، لم يلتحقوا بالتعليم، لأنهم عرفوا مصيرهم مبكرا، وأنهم لن يخرجوا من النيل، مهما كان نوع الشهادة الدراسية التي سيحصلون عليها، فباتوا يكرهون “حياة البر بكل ما فيها”، لكنهم في الوقت ذاته، لا يريدون فرض ظروفهم وحبهم للنيل وما فيه من حياة على أبنائهم. ولأن هؤلاء الصيادين تغربوا عن القاهرة، فلا يحق لهم إلحاق أبنائهم بمدارس قاهرية وفق نص القانون، لذلك يلحقونهم بمدارس محافظاتهم الأصلية، ويتركونهم مع أحد الأقارب ليرعاهم.

هذا المنزل، والذي هو قارب صغير، مصمم وبداخله فتحتان، إحداهما في المقدمة لتخزين متطلبات المعيشة، والثانية في مؤخرة القارب لحفظ أدوات الصيد، أما المساحة المتبقية في المنتصف، والتي تكون مساحتها محدودة جدا، فهي أشبه بصالون المنزل، وأيضا غرفة النوم، وأحيانا المطبخ، حيث تتجمع أسرة الصياد للجلوس فيها والطهي وتناول الطعام والنوم.

سكان القوارب مجتمع مغلق

البعض من سكان النيل يمتلك الواحد منهم قاربين، في حال ما كان عدد الأسرة كبيرا، بحيث يكون الأول مخصصا للصيد وتخزين المعدات، والثاني يتم استخدامه كمنزل متنقل للمعيشة، على أن يقوم رب الأسرة بالخروج في ساعة مبكرة من فجر كل يوم بالتحرك بقارب الصيد في عرض النيل بحثا عن الرزق (صيد الأسماك)، تاركا الزوجة برفقة الأبناء في القارب الثاني، وفي حال انتقال الأسرة لندرة الأسماك من منطقة إلى أخرى بعيدا داخل النيل، للبحث عن مناطق تواجدها، يتحرك الزوج بقارب والزوجة بالقارب الآخر.

تضحيات الزوجات

على خلاف فتيات الجيل الحالي المقيمات على البرّ، واللاتي يبحثن عن شاب متكامل في المظهر والمستوى الاجتماعي والمادي، ويضعن شروطا تعجيزية أمام من يتقدّم لخطبتهن، سواء في نوع وقيمة “الشبكة” (هدية الزوج لزوجته)، أو تحديد شكل وصفات منزل الزوجية، فإن البنت التي ولدت وتربّت في قارب، لا يزيد طموحها في الزواج، عن شاب يمتلك قارب صيد. وتكون تلك الفتاة على قناعة شبه تامة، بأن حياتها في الغالب، لن تخرج عن هذا الإطار، أو أنها سوف تعيش على البرّ داخل منزل سكني متكامل الخدمات مثل باقي الفتيات، لذلك لا تبني طموحاتها الزوجية بعيدا عن النيل، ولا تحلم بما لا يتحقق، لأنها تعلم أنها سوف تنتقل من قارب أبيها إلى قارب آخر مجاور يمتلكه شاب صياد.

أم ساندي، زوجة صياد، وأم لثلاثة أطفال، قالت لـ”العرب”، “تعرفت على زوجي في النيل، حيث كان والدي يعمل في مهنة الصيد، ورضيت بحياتي معه على القارب، لأنني أعشق هذا النهر، ولا أريد الحياة على البرّ، وكذلك الكثيرات غيري من الفتيات، ممن ولدن وتربين في قوارب الصيد، انحصرت كل طموحاتنا بين ضفتي نيل القاهرة، وصحيح يراودني في بعض الأحيان الحنين إلى متعة الدنيا، وأسرح بخيالي بعيدا عن النظر للمياه طوال اليوم، لكنني أعود مرة أخرى إلى حيث أعيش”. وأوضحت، “الزوجة النيلية صبورة إلى أقصى درجة، وتقدّس حياة زوجها مهما كان التعب والشقاء وحتى الجوع، وزوجها يؤمن بذلك، ولا يمكن أن يُغضبها يوما، فهي شريكته في كل شيء، وتمثل بالنسبة إليه أهمّ ما في النيل، ومن دونها لا يمكن أن تستمرّ حياته”، ثم تبتسم وتهمس “أنا سمكة حياته، وبيننا حبّ من نوع آخر، لا يسمعه سوى النيل، فهو كاتم أسرارنا”.

الأسر قادرة على التكيّف مع الجوّ البارد والشتاء القارس، من خلال استخدام غطاء بلاستيكي وخيام، تتم إحاطة القارب بها من جميع الجهات، وتستخدم الفانوس المضيء، أو “لمبة” توقد بالسولار (أحد مشتقات البترول) للإنارة بداخل القارب، حيث تظل الأسرة إلى جوار الشِبَاك بعد إلقائها في النيل، حتى لا يجرفها التيار أو يأخذها شخص آخر. وتتميز الأسر التي تعيش على قوارب الصيد بنيل القاهرة، بأنها منظمة إلى حدّ بعيد، ولأن أفرادها جميعا مغتربون عن محافظاتهم الأصلية، فقد جمّع النيل شتاتهم بطريقته الخاصة، حيث تستقر كل مجموعة من محافظة واحدة في مكان معين، فأبناء محافظة المنوفية يستقرون أسفل كوبري عباس (القريب من جامعة القاهرة)، أما الصيادون عند مبنى الإذاعة والتلفزيون القريب من ميدان التحرير، فهم من الفيوم، بينما يسكن صيادو المنصورة (وسط مصر)، في جزيرة الذهب بنيل الجيزة.

طقوس الزواج

حتى حفلات زفاف الأسر النيلية، تتم على سطح الماء، من خلال مركب سياحي يسع نحو مئة شخص، أو تتراص المراكب بجوار بعضها البعض، لتصنع مسرحا كبيرا، يقف فوقه جميع المشاركين في حفل الزفاف من أسرتي العروسين والأصدقاء، وقد يتمّ الزفاف في مسقط رأسيهما بالمحافظة الأصلية (حيث أنهم لا يتزوجون من الأغراب)، وبعد فترة قد لا تتجاوز الأسبوعين، تأتي العروس وزوجها، ليواصلا الحياة على ظهر القارب والإنجاب، وهكذا.

راحة البال

إذن فالقارب الخشبي الصغير، يكون بالنسبة إلى العريس والعروس “عش الزوجية”، الذي يقوم والد الشاب بتجهيزه قبل موعد الزفاف، ويتكلف حوالي 6 آلاف جنيه (310 دولارات)، حيث تتم عملية دهن القارب من الخارج، وفرشه من الداخل بالبطاطين، وتوضع خيمة من القماش أو البلاستيك أعلى القارب، لتكون بمثابة السقف، مع توفير مستلزمات الصيد به، وفي الغالب تكون العروس ابنة أحد الصيادين. لكل منطقة في نيل القاهرة “داية” (قابلة تقوم بتوليد الزوجات)، وتتم الولادة على ظهر القارب في حال ما إذا كانت الولادة سهلة أو طبيعية وميسرة ولا تحتاج إلى مستشفى، أما إن كانت الولادة عسيرة، فإنها تتم في أحد المستشفيات القريبة.

أصبح سكان قوارب النيل يمثلون مجتمعا جديدا شبه مغلق على نفسه، ومن الصعب اختراقه، هذا المجتمع النيلي الصغير، ورغم كونه جزءا من مجتمع مصري، إلا أن سكان القوارب يبدون أكثر راحة وسكينة وطمأنينة عن سكان البر، فهم لا يشعرون بمعاناة تكاليف الزواج، ولا بالإيجارات السكنية المرتفعة، ولا زيادات أسعار الكهرباء والغاز والمياه ووسائل المواصلات، لا سيما وأن علاقاتهم بالشارع قد تقتصر على شراء مستلزمات الطبخ البسيطة، وربما بعض الملابس والأواني.

محمد ورداني، صياد قديم في نيل القاهرة، ويتمركز في منطقة الورّاق، تحدث لـ”العرب”، عن مزايا السكن في النيل، فقال “هنا راحة البال.. هنا لا توجد صراعات ولا اقتتال ولا إرهاب.. هنا لا يعرف سكان القوارب شيئا عن الحزبية والثورات.. هنا لا نشتكي الفساد والظلم والمحسوبية والوساطة.. هنا نعيش بهدوء، ولا نتحمل نفقات وفواتير الحياة الباهظة”.

غير أن هذا النعيم الذي يعيش فيه ورداني وأسرته على قارب صغير، تنقصه فقط الخصوصية، إذ لا مكان للحمّام والاستحمام، ولهذا يضطرّ سكان النيل للخروج إلى البرّ، ودخول أقرب مسجد موجود على الشاطئ لقضاء الحاجة، وهناك الكثير من الأمهات يقمن بغسل أجسام أبنائهن في مياه النيل من أعلى المركب، ولا مانع من استحمام بعض السكان بالنيل في ظلام الليل بعيدا عن أعين الناس.

لكن ورغم كل شيء، فإن الرضى، يظل السمة الغالبة على الجميع، وحتى وإن لم يظهر ذلك في الكلام، فإنه يظهــر على ملامح الوجه، وربما كانــت تلك الراحـة ناتجة عن عدم التفكير في الغد، أو الخوف من المستقبل، فالشعار عندهم “لا تفكير في الغد طالمـا وجدنا قوت يومنا”، بعكس سكان البر “الذين يخشون الغد أكثر من بحثهم عن قوت اليوم”.