ترجمات..

ما هو دور الذكاء الاصطناعي في حروب المستقبل؟

مركز بروكنجز

لندن

لتوضيح مدى قدرة تأثير الذكاء الصناعي على حروب المستقبل، إليكم السيناريو التالي المأخوذ من كتاب سيصدر في المستقبل وأعكف على كتابته الآن بعنوان: "مفارقة جزر سينكاكو: المخاطرة بدخول حرب عظمى من أجل أهداف محدودة". 

إن هذا السيناريو من المتخيل أن يحدث في الفترة بين الوقت الراهن والعام 2040، وهو يبدأ بهجوم مفترض يشنه "رجال خضر" روس على قرية زراعية صغيرة في شرق أستونيا أو لاتفيا. إن الهدف الروسي المفترض سيكون زرع الشقاق والخلاف داخل حلف الناتو، ما يضعف هذا التحالف. إن إستونيا ولاتفيا هما عضوان في حلف الناتو، وبالتالي تتعهد الولايات المتحدة بالدفاع عنهما، غير أنه في حال وقوع هذا العدوان الروسي، فإن أي ردّ كبير ومباشر يأخذه حلف الناتو ربما لن يكون أمرًا حكيمًا. علاوة على ذلك، فإن البعد الخاص بالروبوتات والذكاء الصناعي لهذا السيناريو، وسيناريوهات مماثلة أخرى، ربما سيكون مثيرًا للاهتمام مع مرور السنوات.

إن وقوع سيناريو مفترض تختلق فيه روسيا حجة لاقتطاع جزء من دولة في بحر البلطيق، واحتلاله بحجة "الدفاع" عن السكان الأصليين المتحدثين باللغة الروسية هناك، قد يخلق مشاكل هائلة لو اختار حلف الناتو التصدّي لهذا العدوان. لو حدث هذا، فقد يتطلب الأمر شنّ عملية مماثلة في حجمها لعملية "عاصفة الصحراء" لتحرير الأراضي المحتلة، وفي الوقت ذاته مواجهة أي تعزيزات ترسلها روسيا. وفي سيناريو أقل نجاحًا، قد تعترض روسيا بعض العناصر الرئيسية لعملية حلف الناتو عبر مزيج من هجمات سيبرانية، وتفجيرات نووية على ارتفاع شاهق مسببة نبضات كهرومغناطيسية وهجمات صاروخية أو جوية تستهدف موانئ وسفنًا رئيسية، وربما حتى شنّ سلسلة من التفجيرات النووية المنتقاة بعناية ضد أهداف بحرية أو برية محددة يكون هدفها "التصعيد من أجل خفض التصعيد". وبالرغم من أن المفهوم الأخير المتمثل في توجيه ضربة نووية استباقية لا يعدّ رسميًّا جزءًا من العقيدة العسكرية الروسية، بيد أنه قد يؤثر على الخيارات الروسية العسكرية اليوم. 

على الجانب الآخر، قد ينجح انتشار حلف الناتو، لكنه سيواجه لاحقًا ضربات نووية روسية، وذلك بعد إدراك روسيا أن حلف الناتو يمتلك تفوقًا تقليديًا في ساحات المعارك في منطقة البلطيق؛ ما سيجبرها على الاختيار بين التصعيد أو خسارة المعركة. وبحلول عام 2040، قد تكون بعض جوانب هذا السيناريو ملائمة لمصالح أمريكا وحلف الناتو. فبحلول ذلك التاريخ، قد تتعزز التزامات حلف الناتو الأمنية، من حيث حجمها ووضوحها، تجاه دول البلطيق، ما سيقلل من فرص فشل الردع في المقام الأول، وسيحسّن من القدرة الأوّلية على المقاومة لأي عدوان روسي. 

لكن في المقابل، فإن الابتكارات التكنولوجية، من بينها التطور في مجالي الروبوتات والذكاء الصناعي، قد يجعل الوضع يزداد سوءًا. من غير المحتمل أن تتغير معظم جوانب الوضع النووي. ربما تتحسن الدفاعات الصاروخية، بما في ذلك أسلحة الليزر المصممة للدفاع عن موقع محدد في بعض الأماكن. إن أسلحة الليزر الدفاعية يمكن أن تساعد في حماية السفن أو الموانئ أو المطارات ضد أنواع مختلفة من الهجمات، لكن نظرًا لأن قوة أسلحة الليزر تقل بسرعة (وكذلك مربع المسافة بين السلاح والهدف) فإنه سيكون من الصعب على الدفاعات الصاروخية تقديم حماية لمنطقة بعينها. 

بالتالي، ورغم أنه من المتصور على أقل تقدير أن تحظى الموانئ والمطارات بحماية أفضل، بيدَ أنه من الصعب تفادي إمكانية أن تكون خطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق التي تشمل أعدادًا كبيرة من الجسور والأنفاق والطرق المرتفعة والتجمعات الضخمة من الإمدادات الموجودة في المخازن والمستودعات، معرّضة للخطر في العام 2040 كما هو الحال الآن. ومن المؤكد أن الدفاعات الصاروخية ستتحسن، لكن سيكون هناك أيضًا تحسن في الصواريخ التي ستتصدّى لها، وذلك من ناحية السرعة والقدرة على توجيه رؤوسها الحربية، بالإضافة إلى استخدام هذه الصواريخ رؤوسًا باحثة ومجسات متعددة الأطياف. 

ومن المحتمل أن تظل الأقمار الصناعية في الفضاء معرضة بشدة لخطر هجوم نووي، ويصدق هذا بشكل خاص على الأقمار الصناعية التي تدور في مدارات منخفضة، إذ تقع هذه الأقمار على ارتفاعات مماثلة لتلك التي تقطعها الصواريخ الباليستية في مسارات طيران معتادة، لهذا من الممكن أن تتعرض لهجمات من تكنولوجيا الدفاعات الصاروخية. 

إن هذه الأجسام معرّضة أيضًا للآثار المتبقية للتفجيرات النووية في منطقة "أحزمة فان ألين الإشعاعية"، وهي المنطقة الواقعة في المجال المغناطيسي للأرض، حيث يمكن للبروتونات والإلكترونات الناتجة عن التفجيرات النووية أن "تعلق" هناك، ملحقةً الضرر بالأقمار الصناعية في كل مدار على حدة. من الناحية النظرية، يمكن تحصين هذه الأقمار الصناعية من انفجارات نووية أكثر بعدًا ومن الإشعاعات التي تضخّها منطقة "أحزمة فان ألين الإشعاعية"، بتكلفة فعلية قد تصل إلى عشرة بالمائة من القيمة الإجمالية للقمر الصناعي، ومع ذلك، من غير المرجّح أن يجري تحصين معظم الأقمار الصناعية التجارية، إلا إذا قررت الحكومات دعم تلك المشاريع. وحتى في حالة التحصين، ستظل أقمار التصوير المتطورة والأرصدة الأخرى عالية القيمة في مدار الأرض المنخفض معرضة للخطر نظرًا لأنها قد تتعرض لهجوم بصورة فردية ومباشرة من الخصوم.

وبحلول العام 2040، ينبغي أن تكون العديد من الأنظمة السيبرانية التي تتحكم في أسلحة الناتو ومنصات أخرى، أكثر قدرة على مواجهة الهجمات، هذا لأن الناتو سيكون لديه عقدان لمواجهة المشاكل التي باتت اليوم مفهومة على نطاق واسع. هذا خلافًا لما كان عليه الحال منذ عشرين عامًا، عندما أدّى إحساس عام بالتهاون تجاه علاقات القوى العظمى لعدم اتخاذ إجراء جدّي ضد التهديدات الموجّهة للأجهزة الإلكترونية مثل القرصنة والانفجارات النووية على ارتفاعات شاهقة والجهات الخبيثة التي قد تتدخل في سلاسل الإمداد وتلحق الضرر بسلامة رقاقات أشباه الموصلات، وذلك بالرغم من أن "مشكلة العام 2000" والمخاوف الأخرى، كان ينبغي أن تنبّه الناس لمخاطر ضُعف الإجراءات الأمنية للحواسيب، غير أن التقدم المحرز في هذا المجال ربما لن يكون متسقًا. ويبدو أنه من غير المرجح نسبيًّا أن يسفر هذا التقدم عن إجراء تحصين جدّي للبنية التحتية المدنية التي تعتمد عليها الجيوش.

وحتى لو خسرت عمليات قرصنة الحواسيب وانتحال عناوين الـ"آي بي" والتهديدات المستمرة المتقدمة الأخرى بعضًا من فاعليتها، لكن هناك مجموعة من التحديات باتت تلوح في الأفق، أحد هذه التحدّيات يمكن أن يكون شكلاً أكثر كفاءة من تهديد مستمر متطور، بحيث تستخدم الجهات المخترقة لأنظمة الخصم الحوسبية قدرات مؤتمتة تتمتع بقوة حوسبية هائلة تعمل باستمرار على تعديل أساليب التصدّي للدفاعات التي تواجهها. 

كما أن هناك تطورًا معقدًا رئيسيًّا آخر قد يتمثل في ظهور تشكيلات أو أسراب من الأجهزة الروبوتية الذكية. على سبيل المثال، بحلول العام 2040، يمكن لأعداد كبيرة من الألغام البحرية الذكية أن تشكّل تهديدات هائلة على النقل البحري. في سيناريو العدوان الروسي، سيحتاج حلف الناتو أن يجهّز ردًا على هذه التهديدات، وقد تكون هذه الأجهزة الذكية من الناحية العملية عبارة عن غواصات مصغّرة تكون حمولتها عبارة عن مجسات ومتفجرات. 

إن روسيا قوية بالفعل في مجال تكنولوجيا الغواصات، ومن المحتمل أن تُتقن هذا النوع من التكنولوجيا في السنوات المقبلة، كما أن هذه المركبات الغوّاصة غير المأهولة يمكن أن يجري نشرها على نطاق واسع في أماكن مثل بحر البلطيق في وقت الأزمات، وبدلاً من البحث عن عشرات الغواصات الروسية، كما هو الحال اليوم، ربما سيتعيّن على قوات حلف الناتو الراغبة في الوصول لموانئ بحر البلطيق، البحث عن مئات أو حتى آلاف التهديدات الخطيرة. ومن غير المحتمل، فيما يبدو، أن تمنع اتفاقيات الحدّ من السلاح من تطوير ونشر هذا النوع من الأنظمة المستقلة، ليس فقط بسبب تحديات عملية التحقق من التخلص من أسلحة كهذه، ولكن أيضًا لأن الولايات المتحدة ستشعر بوجود حوافز قوية تدفعها لإنشاء المزيد من هذه الأنظمة المستقلة، من بينها تلك الأنظمة القادرة على استخدام قوة قاتلة تحت ظروف معينة، حسبما يجادل "بول شار" الباحث في شؤون الأمن. 

في سيناريو آخر، قد يهاجم سرب من "طائرات رباعية" (وهي طائرات هليكوبتر ذات أربع مراوح) تحمل كل واحدة منها بضعة كيلوغرامات من المتفجرات، قواعد جوية تابعة لحلف الناتو، بالإضافة إلى الطائرات المرابطة عليها. قد تتمكن الدفاعات الطرفية التي تستخدم أشعة الليزر من تدمير بعضٍ من هذه الأجهزة أو الأسلحة القادمة، لكن السرب المهاجم قد يختار طريقًا هجوميًّا مختلفًا، أو يسعى لإرباك الدفاعات عبر شنّ هجوم إغراقي. 
 
هناك بعض الحالات التي تنطوي على تحديات خاصة، تخيلوا مثلاً القنابل الجوية الحوّامة الشبيهة بالقنابل ذات صمامات تفجير استشعارية (sensor fuzed weapon) التي كانت جزءًا من ترسانة السلاح الأمريكية لسنوات. إن هذا النوع من السلاح مثير للجدل نوعًا ما؛ هو مصنف باعتباره "قنابل عنقودية" وهي نوع من السلاح محظور بموجب اتفاق دولي، غير أن الولايات المتحدة ليست جزءًا من هذا الاتفاق.

مع ذلك، من الأفضل التفكير في هذا السلاح بوصفه سلاحًا روبوتيًا. لقد نوقشت فائدة هذا السلاح في أرض المعركة باستفاضة في عام 1998، عندما تخيلت مؤسسة "راند" استخدامه في حالات مثل هجوم عراقي بالمركبات المدرعة ضد السعودية على طرق سريعة رئيسية. وفي هذا النموذج المتخيل، فإن نحو 10 آلاف قنبلة تحمل 40 ذخيرة صغيرة من نوع "سكييت"، أو قذائف ذكية مضادة للدبابات (Brilliant Anti-Tank) كانت كافية لتدمير عدة آلاف من المركبات المدرعة العراقية، وكانت قادرة عمليًّا على إيقاف هجوم العدو، وتبلغ القيمة الإجمالية لهذه القذائف (حسب التقديرات) عدة مليارات دولارات. ومن الممكن استخدام هذا النوع من الذخائر بطريقة مماثلة ضد تحركات حلف الناتو على طرق رئيسية في أوروبا، حيث تتقدم قوات الناتو من الغرب باتجاه بولندا ودول البلطيق، وسيتم توجيه هذه الذخائر نحو أهدافها في المستقبل من جانب أجهزة روبوتية صغيرة، وقد يتم استخدام أسراب من هذه الأجهزة الروبوتية التي تحمل ذخائر لمهاجمة قطارات أو قوافل عابرة على الطرق، وذلك بعد تحديد مواقعها من جانب قوات خاصة تسللت إلى أراضي حلف الناتو.  

هناك نوع آخر من الأسراب الروبوتية التي يمكن استخدامها لخلق شبكة مترابطة من الأنظمة المائية غير المأهولة التي تعمل من الناحية الفعلية كألغام متنقلة أو طوربيدات. إن سلاح البحرية الأمريكي لم يقترب حتى هذه اللحظة من وضع هذا المفهوم التكنولوجي موضع التشغيل، ومع ذلك، فإن التكنولوجيات المكوِّنة لهذا المفهوم، مثل المجسات المؤتمتة، باتت متوفرة بالفعل، ومع تحسن تقنية الذكاء الصناعي، قد يكون من الممكن جعل كوكبة من هذه الأجهزة تتمتع باستقلال ذاتي كبير. 

إن جزءًا كبيرًا من هذه التكنولوجيا ذات الصلة متوفر بالفعل، حيث استخدمت منظمات الإتجار بالمخدرات لسنوات سفنًا شبه غطاسة (semisubmersibles) لنقل المخدرات للولايات المتحدة، وقد باتت هذه السفن اليوم ذات تصميم رشيق يجعلها قادرة على الإبحار بكفاءة عبر الأمواج (لكنها لا تزال أبطأ من معظم السفن الحربية). 

منذ عِقد مضى، كان من الممكن بالفعل بناء هذه السفن بحمولة قدرها عشرة أطنان وبتكلفة تبلغ أقل من مليون دولار للسفينة الواحدة، وقد كانت تلك السفن حينها غالبا مأهولة، لكن جعلها ذاتية التحكم تمامًا لن يكون إنجازًا كبيرًا. 

إن هذه القدرات (أي الأسراب الروبوتية) تخلق، ليس فقط شبح "الألغام الذكية" (القادرة على التمييز بين نوع من السفن وآخر قبل أن تنفجر)، لكن أيضًا شبح الألغام المتنقلة والمرنة والقابلة لإعادة الانتشار، والتي تعمل كشبكات ذاتية التحكم، ونظرًا لأن الألغام كانت مسؤولة عن معظم خسائر سفن البحرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، فإن هذه التطورات تعدّ احتمالاً مقلقًا بوجه خاص. وفي العصر الحديث، تجنّبت البحرية الأمريكية الألغام بصورة رئيسية عبر البقاء بعيدًا عن المناطق البحرية التي يُحتمل انتشار هذه الألغام فيها، من دون أن يكون لديها سلاح مضاد فعّال لمواجهتها. 

إن البديل الرئيسي لمشكلة الألغام، كما توضح "كاتلين تالمدج"، أستاذة الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون، هو عبر إجراء عملية إزالة مكثفة لإنشاء قنوات ضيقة نسبيًا من أجل تسهيل الحركة، هذا لو كان هناك وقت كافٍ لفعل هذا. (تقدّر "كاتلين" أن الأمر سيستغرق شهرًا أو أكثر في سيناريو تقوم فيه إيران بتلغيم الخليج العربي، قبل أن تسعى البحرية الأمريكية وحلفاؤها لإزالة هذه الألغام من الخليج).

وربما كان من السهل على الولايات المتحدة القيام بعمليات الإزالة هذه ضد ألغام أعدائها في العقود الأخيرة، لكن عنما يتعيّن على سفينة تابعة للبحرية الأمريكية الاقتراب من ميناء في بحر البلطيق ضد خصم روسي في عام 2025 أو 2030 أو 2035 أو 2040، فإن الوضع قد يكون مختلفًا للغاية. إن القيام بعمليات إزالة ضد ما يُعدّ عمليًّا حقول ألغام متنقلة وذاتية الإصلاح تسكنها أجهزة يمكنها التواصل فيما بينها وتغيير مواقعها لإنشاء شبكات كثيفة وقاتلة، سيكون أصعب بكثير من إزالة التهديدات الراهنة. 

ولو نجح حلف الناتو في معرفة كيفية التشويش على الاتصالات بين الألغام المتنقلة الذكية غير المأهولة، فإن أنظمة الخِصم الروبوتية سيتم ببساطة نشرها في شكل أنماط إضافية للتأكد من عدم وجود ثغرات في التغطية. كما يمكن برمجة هذه الأنظمة لتغيير موقعها بين الحين والآخر لتفادي تحييدها، ولمعالجة أي ثغرة في تغطيتها، حتى في حال عدم وجود معالج بيانات مركزي بمقدورة معرفة موقع هذه الثغرات، وحتى في حال تعطل أنظمة الملاحة الفضائية (وذلك نظرًا لأن المركبات الغواصة غير المأهولة لديها أنواع مختلفة من التوجيه بالقصور الذاتي أو التوجيه الذي يجعل السفينة تحتفظ بارتفاع معين عن قاع البحر (bottom-following guidance). 

ويبقى التساؤل: كم عدد المركبات الغواصة غير المأهولة التي قد تكون مطلوبة لتحقيق الأثر المنشود المتمثل في جعل سفن النقل معرّضة للخطر عند اقترابها من ميناء مثل ميناء "تالينين" أو "ريغا"؟ يتمثل أحد هذه الاحتمالات في إطلاق روسيا لهذه الأجهزة الروبوتية من منطقة "كاليننغراد" مزوّدة بتعليمات للتحرك شرقًا نحو المياه الساحلية لهذه المدن الشاطئية، حتى أن التكنولوجيا الحالية الخاصة بالبطاريات تجعل "سباحة" هذه الأجهزة لتلك المسافة أمرًا سهل التحقيق؛ فالتطور الذي تشهده المواد النانوية والعناصر الأخرى المكوِّنة للبطاريات، ربما تزيد من تحسن الأداء في السنوات المقبلة.
 
إحدى الوسائل المتبعة لتقدير الاحتياجات الكميّة لشبكة من المركبات الغواصة غير المأهولة، هي حساب طول خط الحراسة المطلوب إنشاؤه بالقرب من هذه الموانئ، من أجل تغطية كل طرق الوصول المحتملة، ومن ثَم تقدير الكثافة المطلوبة من الأجهزة المسلحة المنفصلة على طول هذا الخط. بعدها يجري ضرب أي نتيجة أسفرت عنها هذه العملية الحسابية البسيطة في اثنين أو ثلاثة أو أربعة، وذلك لحساب الأجهزة التي تم القضاء عليها نتيجة لجهود حلف الناتو في كسح الألغام أو تعطل هذه الأجهزة.

إن الطريق البحري المؤدي إلى ريغا، في دولة لاتفيا، هو عبارة عن جسم مائي عَرضه نحو 40 ميلاً عند نقاط بالقرب من الميناء، وقد يتم بناء خط الحراسة على بُعد ثلاثة إلى خمسة أميال من الساحل، حيث تبلغ أعماق المياه 100 قدم أو أكثر، ما يجعل من الصعب الكشف عن أي جسم مغمور بصريًّا، ولكن يمكن إجراء الحساب بالطريقة التالية:
لو كان المدى القاتل لكل مركبة غواصة غير مأهولة مماثلاً لمدى طوربيد حديث، مثل الطوربيد الأمريكي من طراز "’Mark 48"، فإنه قد يتعين وضع مسافة فاصلة بين هذه المركبات لكل ميل إلى خمسة أميال تقطعها، وذلك بناءً على حقيقة أن هذه الطوربيدات يمكنها عادة تحديد أهدافها من مسافة تبلغ 400 ياردة. 

ومع وجود عدة خطوط حراسة، ربما 200 أو 500 مركبة غواصة غير مأهولة، بتكلفة لا تزيد على عدة مئات من ملايين الدولارات، سيكون من الصعب للغاية الاقتراب من الأرصفة البحرية لمدينة ريغا. 

بالطبع، بإمكان الولايات المتحدة ودول حلف الناتو الأخرى محاولة إجهاض عمليات تلك المركبات غير المأهولة، كما يمكنها محاولة تدمير هذه المركبات بأعداد كبيرة حتى قبل إطلاقها من مصدرها، كما يمكن لدول الناتو أن تنشئ أسرابها الروبوتية الخاصة بها والمصممة لإيجاد وتحديد والقضاء على المركبات المهاجمة. 
 
لكن الوضع في المستقبل سيكون مختلفًا بصورة أساسية عن الوضع اليوم؛ فالحصانة التي تمتعت بها القوات الأمريكية لعقود أثناء تحركاتها القارية ستكون مهددة بدرجة ما، ولن تعود أمرًا مسلما به، وحتى موارد روسيا العسكرية المتواضعة نسبيًّا ستظل كافية جدًّا لتلبية هذا النوع من الاستثمارات المطلوبة في هذه المجالات، كما توضح الحسابات التي ذكرناها آنفًا. 

وإذا لزم الأمر، بإمكان حلف الناتو تفادي بعض هذه المشاكل عبر البقاء بعيدًا عن بحر البلطيق، ويمكن للقوات الأمريكية والكندية والبريطانية الانتشار في فرنسا أو هولندا أو ألمانيا، ومن ثم التحرك شرقًا صوب روسيا، والحصول على مساعدة من الدول الحليفة على طول الطريق، وقد تنجح هذه الاستراتيجية في نهاية المطاف، لكن ستتخللها تأخيرات زمنية كبيرة، وستعاني من نقاط ضعف أثناء تحركها على طول شبكات الطرق والسكك الحديدية.

علاوة على هذا، قد تشكّك روسيا في امتلاك حلف الناتو الإرادة التي تجعله يقوم بردٍّ كهذا؛ وبالتالي، يفقد الحلف الهدف الأساسي من تعزيز الردع، وهو كسب الحرب في نهاية المطاف.  

وبفضل العمق الاستراتيجي لحلف الناتو وموارده الهائلة مقارنةً مع موارد روسيا - وهما ميزتان قد لا تملكهما الولايات المتحدة وحلفاؤها في المحيط الهادئ في مواجهة الصين - فإن الحلف سيظل هو الطرف الأقرب للفوز بأي صراع تقليدي في شرق أوروبا لمدة 20 سنة من الآن، لكن درجة الصعوبة ستكون كبيرة للغاية، كما ستكون درجة الخطر التصعيدي مقلقة جدًّا. 

لقد حاولت في كتابي أن أقدّم بعض الخيارات السياسية لواشنطن ودول حلف الناتو الأخرى، وتبقى النقطة الأساسية لهذا المقال هي: الروبوتات والذكاء الصناعي يمكنهما تأدية دور مركزي ومهم للغاية في الحروب بحلول عام 2040، حتى من دون وجود اختراع يشبه المدمّر أو الإنسان الآلي العملاق.