تحدث لـ(اليوم الثامن) عن جوانب تجربته الأدبية والروائية..

روائي عربي: المثقفون محاصرون طحنتهم صروف الحياة

الروائي والقاص والباحث العربي د.عمار علي حسن

محمد الحمامصي

تربو أعمال الروائي والقاص والباحث العربي د.عمار علي حسن على الأربعين، عشر روايات وسبع مجموعات قصصية وكتب في الاجتماع السياسي والتصوف والنقد الأدبي، فضلا عن حضور بارز على الساحة الثقافية والفكرية العربية عامة والمصرية خاصة من خلال مقالاته في الصحف ومشاركاته في المؤتمرات المحلية والدولية، وقد تميزت أعماله الفكرية بثراء رؤاها وأفكارها، والإبداعية بفضاءاتها الجمالية والفنية التي احتفى بها النقاد..

(اليوم الثامن) تعرف القراء في هذا الحوار على جوانب مهمة من تجربة الروائي الدكتور عمار حسن الثرية بنتاجاتها الفكرية والإبداعية.

 

** ما سر غزارة الإنتاج لاسيما أنك حريص على الكيف مع الكم؟

 

** أحاول أن أعمل بصبر فلاح، وإخلاص ناسك، وهمة رجل جاء من الجنوب المنسي، بحثا عن مكان وسط الزحام في القاهرة التي أخذت النصيب الوافر من كل شيء. وقد أدركت مبكرا أن الكتابة تحتاج إلى تفرغ، فأعطيتها ما طلبت، وأحلت نفسي إلى تقاعد مبكر، وعمري لم يكن قد تجاوز الثالثة والأربعين سنة، وأوجه طاقتي إلى القراءة والكتابة، لأنها همي وانشغالي ومكمن دوري الأساسي في الحياة، ولهذا توالت أعمالي على النحو الذي تراه، فكل يوم يمر عليَّ دون أن أقرأ فيه جديدا، وأكتب مختلفا، أشعر أنه قد ذهب سدى.

 

** إلي أي حد يتقاطع السياسى والروائى والصحفى بداخلك ؟

 

** في أطروحتي للدكتوراه التي كان عنوانها "القيم السياسية في الرواية العربية" أيقنت أن الروائي إن كان فنانا بالطبع فهو أيضا عالم اجتماع صاحب بصيرة، لا يطرح تصوره وفق مسار برهنة واستدلالات منهجية، لكن من خلال سرد يخضع لأحوال الفن وشروطه.

 في الوقت نفسه فالسياسة بمفهومها الواسع لا يمكن تفاديها، حتى لو كنا نكتب نصا جوانيا أو جسديا صرفا أو متعلقا بمسألة هامشية وصغيرة وضيقة أو حتى نفسية بحتة، ولهذا كان نجيب مخحفوظ يقول دوما: "لايوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسي أو اجتماعي نعالجه بطريقة فنية"، وكانت توني موريسون الأديبة الأمريكية الحاصلة على نوبل أيضا تقول: "السياسة تلاحق الأدب أينما ذهب ولا فكاك منها"، وهذا الرأي يأخذ بالطبع في اعتباره أن الأدب لا يجب أن يتحول إلى بيان أو منشور أو أيديولوجية أو وعظ، وهي مسألة تحظى لدي، كما غيري من الروائيين، بأهمية قصوى، لكن دراسة المجتمع والأحوال السياسية أو معرفتها أو الإحاطة بها أو التفاعل معها، قد يمنحنا الإطار أو السياق الذي تدور فيه سردياتنا الأدبية، ويمكن أن يمدنا أيضا بالحكايات والحيل والتقنيات والمواقف.

ومع كل هذا كان للصحافة فضل علي في جعلي أكتب ما يفهمه الناس، مهما كان عمق وتجريد القضايا التي أتناولها، أو صعوبة الأجواء وتعقيد الشخصيات التي أرسم ملامحها في أعمال الروائية والقصصية.

 

** في كل هذه المؤلفات أيهما أقرب إليك، الأدب أم الاجتماع السياسي أم النقد والتصوف؟

 

** الإبداع الأدبي هو الأقرب إلى نفسي، وكان الأدب سابقا على البحث فيما كتبت وما نشرته، وأحاول حتى في دراساتي المرتبطة بعلم الاجتماع السياسي أن أبحث عن المناطق غير المألوفة وغير المأهولة أو المجهولة، والتي تحتاج هي الأخرى إلى إبداع، وإن مارست السياسة في الحياة فمن منبر "المثقف العضوي" حسب تعبير جرامشي، وهي ممارسة تفيدني أيضا ككاتب وباحث، يؤمن بأن النظريات تولد من رحم الميدان الاجتماعي، وأن المعرفة لا تهديها لنا الكتب فحسب، إنما ما نسمعه من الناس، وما نتأمله من طرائق عيشهم، لاسيما في بلد عريق مثل مصر.

 

** هل في بعض أبطال رواياتك شيء منك؟

 

** في بعض أبطال رواياتي شيء مني، لكن ليس جميعهم على هذا النحو، حيث أؤمن أن الكاتب لابد أن يرى غيره وإلا دار حول ذاته وانتهى مشروعه الكتابي إلى بوار. ولأنني أكتب عمن أعرفهم، وعما أعرفه، فإن كثيرا من أبطالي قد انحدروا من طبقة وثقافة وخبرة اجتماعية شكلت وجداني ووعيي، لذا قد تجد هذا التشابه. لكن مقتضيات الفن وقوانينه تحتم علي دوما أن أرى الشخصية كما تود هي أن ترى نفسها، وتعرض نفسها، وتفكر لنفسها، وتعبر عن نفسها، وتتصرف في الواقع على هذا الأساس.

 

** بدا تأثرك بنجيب محفوظ في بعض أعمالك، فهل هذا صحيح؟

 

** هناك من قارن بين روايتي "باب رزق" ورواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" أو "القاهرة 30"، كما أن هناك من قارن بين روايتي "جبل الطير" ورواية أستاذنا محفوظ "أولاد حارتنا"، لكن "باب رزق" مختلفة عن رواية "القاهرة الجديدة" في البناء والأسلوب والأجواء والمكان والزمن ومصائر بعض الشخصيات. ومحفوظ لم يكتب عن الريف سوى قصة قصيرة واحدة، لأنه رجل ولد وعاش ومات في المدينة، وبطلي وإن كان قد جاء إلى المدينة فهو ريفي، وطبيعة المجتمع الصعيدي الذي ينتمي إليه ظلت تلازمه حتى بعد أن سكن القاهرة، لهذا لا أجد تشابها بين الروايتين إلا في أن روايتي تعد شهادة على حال مصر في تسعينيات القرن العشرين، أو هكذا أظن، مثلما كانت رواية محفوظ شهادة على مصر في ثلاثينيات القرن العشرين. في كل الأحوال فإن جيلي، وإن كان قد تأثر بمحفوظ وأدريس الحكيم وحقي وغيرهم، وكذلك بكتاب عالميين كبار قرأنا أعمالهم ولا نزال، فإن عليه أن يضيف إلى منتجهم السردي، ويسلك طرقا مختلفة، في زمن تطور فيه فن الرواية بطريقة مذهلة. وأود هنا أن أقول لك شيئا لا أحب الإفصاح عنه كثيرا، وهو أن الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور قال لي مرة: "لو أخلصت لفن الرواية ستصل فيه إلى ما وصله نجيب محفوظ" وكان ذلك بعد قراءته لروايتي "شجرة العابد" و"جبل الطير".

 

** لماذا كتبت سيرتك الذاتية عبر كتاب "مكان وسط الزحام" وأنت في الخمسين من عمرك، وهل هذا معناه أنه لم يعد لديك ما تقدمه؟

 

** كتبت سيرتي لأرد على أولئك الذين أرادوا تصويري وهما وظلما على أنني أجهل مجتمعي، وأعيش في برج عاجي، وذلك في حملة ضارية استهدفتني قبل سنتين تقريبا في إطار تصفية حسابات سياسية. وبالطبع فإن كتاباتي لن تتوقف إلا بموتي، فهناك مجموعة قصصية لي ستصدر قريبا بعنوان "أخت روحي" وانتهيت من كتابة رواية عنوانها الأولي هو "مواعدة الموتى" وألفت كتابا بعنوان "المجاز السياسي" أكملت فيه ما بدأته في كتاب "الخيال السياسي" الذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة الشهيرة، وجمعت بعض دراسات ومقالات مطولة عن التعليم الديني والمدني في مصر، وستصدر في كتاب مع معرض القاهرة الدولي للكتاب بعنوان "جامعات وجوامع" وفي رأسي أفكار لقصص وروايات وكتب أدعو الله أن يمهلني، ويعطيني المدد، حتى أكتبها.

 

** ما هما المساران الأساسيان اللذان يحكمان مسيرتك الكتابية مثلما حاولت أن تبينه في سيرتك الذاتية؟

 

** في حياتي تجاور العلم والفن، ثم تعانقا بمرور الأيام، وقد حرصت على أن تجلي سيرتي الذانية هذه المسألة. ولم أبدا هذه السيرة بالمولد والنشأة، كي لا تأتي تقليدية مثل كثير من السير، بل توسلت فيها بما أمتلكه كأديب، وكتبتها في صيغة سردية تصف واقعي بلا خيال ولا افتعال، ولأني أدرك أن حياتي الحقيقية بدأت مع المدرسة فقد انطلقت منها، واسترجعت ما قبلها مما بقي في ذاكرتي مما حكاه لي أهلي عن طفولتي المبكرة جدا.

 

** كيف ترى حال المثقف العربي في وقتنا الرهن؟

 

** المثقفون محاصرون في العالم العربي، وما يتاح لهم من حرية لا يكفي كاتبا واحدا، مثلما قال يوسف إدريس ذات مرة. والكتابة ليس بوسعها أن تقدم لأصحابها الحياة المادية الكريمة التي تليق بهم، لذا بعضهم يضطر إلى امتهان مهن أخرى ليقتات منها، وبعضهم يتحول إلى بوق للسلطة حتى تمن عليه ببعض ما لديها من أموال ومناصب، وهناك من تطحنه صروف الحياة فيهجر الكتابة قانطا. لكن ما يضني المثقف العصامي، المستكفي بالكتابة، والمستغني عما بيد السلطان، هو ألا يجد لكلمته صدى في المجتمع الذي يحلم له بحياة أفضل، أو ألا يقدر الناس قيمة الكلمة، ويعتبرونها عملا لا جدوى منه.