كاتب..

خالد علي مصطفى شاعر فلسطيني عراقي لم يكن تائهاً كغيره

خالد علي مصطفى المقيم في جحيم غزله

فاروق يوسف

أخيرا هدأ الشاعر وهو الذي لم يكف عبر أكثر من خمسين سنة عن الاحتجاج الصاخب. فرض الموت عليه الصلح مع العالم من طرف واحد ليبقي اختلافه المدوي بمثابة واحدة من أهم علامات الثقافة العراقية القادمة من ستينات القرن الماضي. صمت الشاعر بعد أن رأى الفجيعة تجمع بين حيفا والبصرة، مدينتَيْ النوم واليقظة. ففي الأولى وُلد وشهدت الثانية ولادته الأخرى التي ترتبط بالشعر.

في عالم الفرسان الأربعة
خالد علي مصطفى خفيف مثل ريشة ثقيل مثل حجر. تكمن خفته في صلته المسالمة بالعالم فيما تتميز آراؤه النقدية ومواقفه الفكرية بثقل وزنها. هو غامض كما لو أنه لا يقوى على الوضوح الذي يفسد عاداته الشعرية وواضح كما لو أنه يرغب في أن يقول كل شيء بفصاحة بدويّ تكتظ عيناه بدموع الحقيقة التي لا يراها أحد سواه.

الناقد والشاعر معا يقفان دائما. أحدهما يسند الآخر. أحدهما يراقب الآخر ولا يتخلى عنه.

صنيع ثقافته الراقية والمشذبة والتي تتوزع بين التراث والمعاصرة وبين ثقافتين “العربية والعالمية” وبين موقفين من العالم “الانتماء والقطيعة”.

سريع في مشيته كما في جمله المتطايرة. لا يتحكم بحركة يديه اللتين تتبعان بوق إسرافيل الذي فاجأه في لحظة إلهام مصيري وبطيء في محاولته العثور على منفذ للفهم في ما يقوله الآخرون. كان منصفا ودقيقا وإنسانيا في آرائه بالرغم مما يبدو عليه من قسوة في الحكم الذي يضفي عليه طابع التشدد والتطرف.

كتب المطولات الشعرية لأنه كان يعتقد أن حياته قصيرة. يتذكر مسيرته طفلا يلتفت إلى جهة، صارت رائحة زيتونها تغمره بشعور عميق باليتم.

ميزة مصطفى أنه يعد واحدا من صناع الثقافة في العراق، بالرغم من فلسطينيته. كان منتميا بعمق إلى الثقافة العراقية. ولم يكن لدى العراقيين شعور بأن ذلك الشاعر كان يتدخل في ما لا يعنيه حين يحتج ويعترض ويتمرد.
ميزة مصطفى أنه يعد واحدا من صناع الثقافة في العراق، بالرغم من فلسطينيته. كان منتميا بعمق إلى الثقافة العراقية. ولم يكن لدى العراقيين شعور بأن ذلك الشاعر كان يتدخل في ما لا يعنيه حين يحتج ويعترض ويتمرد
عام 1969 كان أحد الموقّعين على البيان الشعري الذي تبنته مجلة “شعر 69” غير أنني على يقين من أنه لم ترق له ولو كلمة واحدة من ذلك البيان، لأن مزاجه الشعري كان مختلفا.

ميزة مصطفى أنه كان واحدا من صناع الثقافة في العراق، بالرغم من فلسطينيته. كان منتميا بعمق إلى الثقافة العراقية. لم يكن لدى العراقيين شعور بأن ذلك الشاعر كان يتدخل في ما لا يعنيه حين يحتج ويعترض ويتمرد ويعلن عن غضبه واستيائه.

كانت موهبته الشعرية هي أساس عراقيته.

كما أن الشاعر تعامل مع عراقيته باعتبارها واحدة من نعم الشعر عليه فأخلص لها. كان العراقيون وأنا واحد منهم ينسون أن الرجل الذي يهزمهم بحججه النقدية لم يكن عراقيا بالولادة.

ولد مصطفى في قرية عين غزال، قرب حيفا، عام 1939. عام 1948 انتقل مع عائلته لاجئا إلى البصرة جنوب العراق وبعدها إلى بغداد حيث أتم دراسته. تخرّج في كلية الآداب، قسم اللغة العربية عام 1962. حصل على شهادة الماجستير في الأدب من خلال دراسته للشعر الفلسطيني، وبعدها نال شهادة الدكتوراه وعمل مدرسا للأدب في الجامعة المستنصرية ببغداد.

“موتى على لائحة الانتظار” هو أول كتبه الشعرية وصدر عام 1969 في النجف. بعدها نشر خمسة كتب شعرية هي “سفر بين الينابيع” و“البصرة ــ حيفا” و“المعلقة الفلسطينية” و“غزل في الجحيم” و“سورة الحب”. كما نشر عددا من الكتب النقدية منها “في الشعر الفلسطيني المعاصر” و“شعراء البيان الشعري”.

عام 1969 كان مصطفى واحدا من أربعة شعراء وقعوا بيانا شعريا مطولا أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية العراقية.

الشعراء الثلاثة الآخرون هم سامي مهدي وفوزي كريم وفاضل العزاوي. كان توقيعه على ذلك البيان واحدة من مفارقات سيرته الشعرية. فبالرغم من أنه ما من شيء يجمعه شعريا برفاقه الثلاثة غير أن ذلك البيان كان بمثابة إعلان صريح عن انتمائه إلى الحركة الشعرية في العراق من جهة كونه اعترافا به من قبل الوسط الثقافي شاعرا.

العائد بـ"طرفة" إلى عصرنا
ذات يوم في تسعينات القرن الماضي دعاني الشاعر خالد مطلك لإلقاء محاضرة في اتحاد الأدباء ببغداد عن مصطفى. ركزت في تلك المحاضرة على علاقته بطرفة بن العبد وكان الشاعر يومها حاضرا. كنت قد استندت في محاضرتي على مقالة نشرها الشاعر في أحد أعداد مجلة “شعر 69” عن معلقة طرفة. كنت قد قرأت مقالته مفتونا بقدرته على أن يكسب الشعر طابعا لا زمنيا؛ فليس هناك من وجهة نظره شعر قديم. الشعر يقع خارج الزمن. ولأنني كنت أرتجل مثلما هي عادتي دائما فقد كنت أشعر بالإحراج خشية أن أقول شيئا قد يغضب الشاعر الذي أعرف أنه لا يجامل على حساب ما يراه حقا. أما حين انتهت المحاضرة بسلام وجاء خالد ليعانقني فقد شعرت بسماحته التي لم أكن أدرك سعتها.

درس مصطفى الشعر العربي، قديمه وحديثه، بأسلوب لا يفرق بين القديم والحديث. “ليس هناك شعر قديم” يمكنه أن يقول بيسر. حين قلت له ذات مرة “أراغون شاعر أموي” وكنت صغيرا يومها التفت إلي وقال “إنها فكرة مرعبة، غير أنها قد تكون صحيحة”.

الحدود بين ما هو محلي وعالمي في الشعر ليس لها وجود بالنسبة إليه مثلما هي الحدود بين ما هو قديم وما هو جديد. يقوم درسه الشعري أصلا على مبدأ الجمال. غير أنه شذ عن تلك القاعدة حين تعلق الأمر بمحمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج.

فالأول من وجهة نظره دخل في فضاء مظلم والثاني هو مجرد شاعر عقائدي. أما الثالث فالشعر تحول لديه إلى ضرب من النثر التوراتي. فمَن يعرف مصطفى لا بد أن يتوقع آراء من ذلك القبيل. متشدد وعنيف غير أن آراءه لا تخلو من ظرف وروح دعابة.


الفلسطيني والعراقي معًا
بالرغم من فلسطينيته فإن مصطفى لم يكن موزعا على المستوى الشعري بين هويتين. صحيح أنه درس الشعر الفلسطيني غير أن أحدا من الدارسين على حد علمي، وقد أكون مخطئا، لم يتعامل معه باعتباره شاعرا فلسطينيا.

هل كان الشاعر يعاني من تلك العقدة؟ لم يكن الأمر كذلك. لقد جرفته الحياة الشعرية في العراق فاستجاب لها وكان واحدا من بُناتها الأُصَلاء. لم ينزو بل خاض معارك أدبية عديدة من أجل الدفاع عن فكرته التي تتعلق بالشعر العراقي الحديث.

برزت فلسطينيته في شعره. وهو شعر صعب، لم يكن من اليسير فصل مكونات بعضها عن البعض الآخر. كان خياله يستند في صناعة صوره على ما ينبعث من الذاكرة وعلى اليومي العابر في الوقت نفسه في ظل بلاغة تجمع بين سياقين لغويين، قديم وحديث.

ذاكرته الفلسطينية صنعت قاعدة ليومياته العراقية. كان يتذكر من أجل أن يكتب الشعر وكان يكتب الشعر من أجل أن يفهم نسق حياته. لقد وهبته الحياة في العراق فرصة ألّا يكون ذلك الفلسطيني التائه الذي لا يملك سوى قضية واحدة وهي “العودة إلى البيت”. كانت لديه أسئلة ما ورائية قابلة للتحديث في أية لحظة.

لذلك فإنه كان يرى مستقبله شاعرا عراقيا بذاكرة فلسطينية. وهو ما نجح في الوصول إليه.

عاش خالد علي مصطفى قطيعته مع الواقع باعتبارها مسألة وجودية. لقد أدرك في وقت مبكر من حياته أن الشعر هو صلته بالعالم لذلك أخلص له ولم يهب صوته العالي إلا لقضايا الإنسان