رهان على التغيير..

القمة العربية في تونس تشهد تصعيدا متعدد الأبعاد

رهان على التقاء السياسة السعودية بدورها المحوري بالدبلوماسية التونسية الهادئة

تونس

ترسم القمة العربية في دورتها العادية الثلاثين التي تستعد تونس لاستضافتها في نهاية الشهر الجاري، ملامح انعطافة سياسية بأبعاد إستراتيجية نوعية. تأتي هذه الانعطافة في توقيت تتعدد فيه الرهانات بمعادلات تتداخل فيها الحسابات السياسية مع العوامل الاقتصادية والتنموية والأمنية العسكرية، وكذلك أيضا الثقافية والاجتماعية.

يحمل توقيت هذه القمة الكثير من الرسائل بين ثنايا جدول أعمالها الحافل بالتحديات والتطلعات إلى تضامن عربي فعال، وتوافق سياسي بعناوين واضحة تستند إلى قاعدة العمل المشترك الذي يستدعي مقاربات جديدة.

ورغم أن السياق العام لهذه القمة يجعل الافتراضات في علاقة بنتائجها تتوزع في اتجاهات مُتعددة، ارتباطا بتعدد الأجندات التي باتت تزدحم بها المقاربات العربية التي تتجاذبها موازين القوى، والحسابات السياسية المُتباينة، فإن ذلك لا يمنع من القول إنها قادرة على توضيح ملامح المرحلة العربية القادمة، لجهة تبديد الغموض والضبابية المحيطين بالمشهد العربي الراهن.

تتميز القمة العربية، هذه المرة بتعدد العوامل الموضوعية التي تُمكّنها، إن توفرت الإرادة السياسية القوية، من تجاوز الحالة العربية الراهنة، إلى واقع يُحدد أولويات المُستجدات، وترتيب عناصرها بعيدا عن تلك الحسابات التي تحول دون إعادة تفعيل العمل العربي المشترك.

القمة العربية تتميز هذه المرة بتعدد العوامل الموضوعية التي تُمكّنها من تجاوز الحالة العربية الراهنة، إلى واقع يُحدد أولويات المُستجدات

تكمن هذه الميزة التي تدفع إلى التفاؤل، في المواقف العربية التي عكست إلى حد بعيد رغبة في إحكام التنسيق لفتح آفاق جديدة على قاعدة أن الوقت حان لتحريك المشهد العربي نحو مساحة يكون فيها التضامن العربي أكثر عمقا، وقادرا على رسم الإيقاع السياسي، في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة. بل إن هذه الميزة التي تتزايد أهميتها بدلالات سياسية تأخذ بعين الاعتبار حجم التحديات والرهانات، تجعل من هذه القمة قادرة على الاقتراب أكثر فأكثر من عمق الأزمة العربية، لتفكيكها بمقاربات واضحة تُلغي التناقضات في الرؤى، وترسم من خلال ذلك المعادلات التي تتطلبها المرحلة الجديدة التي تستعد المنطقة العربية لدخولها.

تستند هذه القراءة المرافقة للقمة التي ارتفعت وتيرة الاستعدادات لاجتماعاتها التحضيرية، إلى جملة من المعطيات التي تبدأ بطبيعة الأحداث والتطورات التي جعلت المنطقة العربية تقف على حافة مرحلة جديدة تتخللها مخاطر مُتنوعة وتهديدات حادة، ولا تنتهي عند انتقال رئاسة القمة العربية من السعودية إلى تونس، بما يحمله من دلالات واضحة الأبعاد وفي تفاصيل عناوينها.

ولما كانت تلك المخاطر والتهديدات معروفة للجميع، ولا تخفى على المواطن العربي العادي، فإن دلالات هذا الانتقال تأخذ أبعادا أخرى بإضافات تُترجم إلى حد بعيد عناوين هذه القمة، ذلك أن انتقال رئاستها من دولة وازنة سياسيا واقتصاديا هي السعودية بدورها المحوري في المنطقة العربية، إلى تونس التي هي أيضا وازنة بسياساتها ودبلوماسيتها الهادئة، يُعطي صورة أخرى للمشهد العام.

حدث مفصلي

يمكن قراءة تلك الدلالات من خلال تطلعات المتابعين لتطورات الشأن العربي، الذين لا يترددون في وصف قمة تونس بـ”الحدث المفصلي” رغم أنها تُعد استكمالا لملفات بحثتها الرئاسة السعودية خلال العام الماضي، وأن المرحلة الراهنة هي امتداد لسير الأحداث العربية بعناوينها المتنوعة التي تطرقت إليها قمة الظهران في منتصف أبريل من العام الماضي.

وتبنت قمة الظهران بالسعودية، جملة من القرارات التي تخص الأزمات الإقليمية التي تمر بها بعض الدول العربية في اليمن وسوريا، ولبنان، والعراق، وليبيا، والصومال، والسودان وجزر القمر، سعيا منها لإيجاد حلول سلمية لتلك الأزمات وفقا للمرجعيات الدولية مثل بيان جنيف 1، وقرار مجلس الأمن رقم 2254 في ما يتعلق بالأزمة السورية، ودعم جهود الأمم المتحدة وخطة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، وقرار مجلس الأمن رقم 2216 والمبادرة الخليجية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني بالنسبة لليمن، وبما يؤمن استقلال اليمن ووحدته ويمنع التدخل في شؤونه الداخلية، ويحفظ أمنه وأمن دول جواره.

وعملت السعودية منذ قمة الظهران، التي انعقدت تحت عنوان “قمة القدس”، على الدفع بالقضايا العربية الملحة إلى صدارة الاهتمام العربي، وخاصة منها القضية الفلسطينية التي تراجع الاهتمام بها بسبب الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية، حتى أضحت هوية القدس العربية الإسلامية مُهددة.

وبدا ذلك واضحا من التحركات الإقليمية والدولية للسعودية التي استهلت رئاستها للقمة العربية في دورتها العادية التاسعة والعشرين بإعلان العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، خلال الجلسة الافتتاحية للقمة، عن تسمية القمة بـ”قمة القدس”، قائلا “ليعلم القاصي والداني أن فلسطين وشعبها في وجدان العرب والمسلمين”.

وأكد خلال كلمته أن القضية الفلسطينية هي “قضيتنا الأولى وستظل كذلك، حتى حصول الشعب الفلسطيني الشقيق على جميع حقوقه المشروعة وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية”.

ولم يتردد في المقابل، في التعبير عن استنكار السعودية ورفضها لقرار الإدارة الأميركية المتعلق بالقدس، والتأكيد على أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية، مُعلنا في نفس الوقت عن تبرع بلاده بمبلغ 150 مليون دولار لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، و50 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).

ويُنتظر أن تُركز قمة تونس على تلك العناوين والقضايا التي أدرجتها على جدول أعمالها، في استكمال ومتابعة لملفات قمة الظهران، حيث سيبحث القادة العرب، خلال تواجدهم في تونس، قضايا العمل العربي المشترك، وسبل مكافحة آفة الإرهاب والتنمية، إلى جانب ملف التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية، وذلك بنسق تشاوري على أرضية واضحة وصريحة، مدعومة بما سجلته العلاقات التونسية-السعودية، من زخم نوعي شمل مختلف مجالات التعاون الثنائي.

ولعل اختيار الملك سلمان بن عبدالعزيز البقاء في تونس بعد هذه القمة، في زيارة رسمية تستغرق عدة أيام، دليل على عمق هذه العلاقات التي ترتقي بأهميتها إلى مصاف العلاقات التاريخية المُتجذرة، لما للمملكة وتونس من ثقل تاريخي في العالمين العربي والإسلامي، حيث يحرص البلدان في كل لقاء يجمعهما على زيادة تفعيل آليات التعاون وتعزيز العلاقات تماشيا مع النهج نحو إرساء علاقات متينة بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية وغيرها.

التنسيق العربي-العربي

تُعطي هذه العلاقات المتينة بين البلدين، أبعادا إضافية لتلك الدلالات التي تُرجح القراءة المتأنية أن تكون مُخرجات قمة تونس المُنتظرة في مستوى المقاربات الإستراتيجية التي تعكس إدراكا للمتغيرات التي تعصف بالمنطقة في هذه المرحلة التي تشهد تصعيدا متعدد الأبعاد.

ويستدعي هذا الإدراك رفع منسوب التنسيق العربي-العربي إلى المستوى المطلوب، تمهيدا لعمل متكامل يُفضي إلى تعاون أشمل وأوسع، لتشكيل مظلة سياسية متكاملة وإستراتيجية بمعايير قادرة على فرض الأولويات العربية في مواجهة التهديدات والمخاطر التي تتربص بالمنطقة العربية.

وتبقى تلك المظلة التي تفرضها السياقات الجديدة لمُتغيرات المشهد العربي، قابلة للتحقيق بالنظر إلى جملة من العوامل الأساسية، التي تبدأ بصورة تونس التي يُنظر إليها على أنها تُمثل صوت العقل والاعتدال في مواقفها، ولا تنتهي عند العلاقات الجيدة التي تربط بين تونس والمملكة العربية السعودية، التي ستُسلم رئاسة القمة العربية إلى تونس.

وعلى هذا الأساس، يبقى الأمل قائما في أن ينجح القادة العرب خلال قمة تونس في تحقيق التضامن والتوافق، وصولا إلى إعادة تفعيل الدور العربي القادر على التصدي لكل التحديات التي تواجه المنطقة العربية.