التحقيب الزمني..

بحث: السوق الديني وصراعات رأس المال الرمزي

باحث في علم الاجتماع يستعرض مسألة "التديُّن" بين التسليع والاحتكار

واشنطن

تأتي دراسة د.عبدالرحمن بن عبد الله الشقير، الباحث السعودي، وأستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود بالرياض، بعنوان “رأس المال الديني”، لتعيد طرح مسألة شائكة لطالما شغلت الباحثين عن علاقة الدين بالتديُّن، لكن في إطار منهجي مختلف، ومنظور تطبيقي مغاير للمألوف؛ فالعلاقة بين الدين والتديُّن هنا يتم تناولها عبر مفهوم استلهمه الباحث من عالم الاجتماع الفرنسي ذائع الصيت بيير بورديو، وهو مفهوم “رأس المال الرمزي” الذي طرحه بورديو لتفسير قيمة موازية لرأس المال المادي، لكن في المجال الثقافي والعلاقة بالمجتمع. وتتلخص مقاربة بورديو في مقارنة رأس المال الاقتصادي برأس المال الرمزي؛ لتشمل جميع “الرساميل” ذات القيمة المضافة غير المادية. وبعبارة أخرى قيمة العلاقات الاجتماعية وأثرها على سير مصالحه التي تتحوَّل إلى “رأسمال اجتماعي”.

تسعى الدراسة إلى تحليل معمَّق لمسائل أربع؛ هي: العلاقة بين الدين والتديُّن، وماهية رأس المال الديني، واختلالات الوظيفة الاجتماعية في السوق الديني، والسوق الديني. واختار الباحث المنهج الوصفي التحليلي؛ عبر التنقيب في مدونات التراث العربي، والدراسات الاجتماعية، إضافة إلى متابعة شخصية وميدانية عن قرب للحالة السعودية أتاحتها لقاءات مع عدد من العاملين في الحقل الدعوي الديني.

في المقدمة يميِّز الكاتب بين رأس المال الديني الصلب ويقصد به المنهج العلمي، ورأس المال الديني السائل ويندرج تحته كل ما يدخل في إطار “الشكلانية”؛ من المظهر إلى الزي، مستعيرًا وصفَي السيولة والصلابة من دراسة زيجمونت باومان في  مشروعه النقدي لعصر الحداثة؛ وهو مفهوم مقارب للثابت والمتحول في دراسات المعاصرين للتراث، كما فعل أدونيس في أطروحته.

في المقدمة؛ يؤسس الباحث فرضية تندرج ضمن التحقيب الزمني؛ حيث يرى أن ما حدث في الخمسين سنة الأخيرة يعبر عن “هيمنة رأس المال الديني السائل، متمثلًا في طرح ديني شكلاني مؤقت، وأيديولوجيات حزبية وجماعات مذهبية تتلون مع كل مرحلة زمنية”؛ لكنها منذ ثلاث سنوات وفي السعودية تحديدًا شهدت تراجعًا كبيرًا عكس ما وصفه بـ”انخفاض القيمة التبادلية لرأس المال الديني عند مالكيه”.

تحت عنوان أدبيات الظاهرة نلمس تفريقًا جوهريًّا بين “الدين والتديُّن”، ويتكئ الباحث في هذا التفريق على كتاب للمفكر المصري عبد الجواد ياسين، بعنوان “الدين والتديُّن.. التشريع والنص والاجتماع” (2012). ويستخدم هذا التمييز بينهما للتفريق بين ثلاثة مستويات؛ التدين الشكلاني (المظهري)، والشعائر الدينية، والأخلاق التي تعد “جوهرًا”، مستشهدًا بنصوص الكتاب والسُّنة؛ ومنها حديث: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم”.

ورغم جوهرية الأخلاق في مسألة الدين؛ فإن طغيان الشكلانية في التديُّن، كما يراه الباحث، جزء من الصراع الدائم، بحسب عالم الاجتماع الألماني جورج، بين “الروح” و”الشكل”، فالتديُّن الشكل الاجتماعي يحاول السيطرة على الجانب الروحي من الدين، ومن ثَمَّ يدلف البحث إلى مسألة “الاتجار بالدين” باعتبارها ظاهرة قديمة وردت بصيغتَين في النصوص القرآنية؛ صيغة إيجابية عند الحديث عن رأس المال الديني الصلب (جوهر الدين) كما في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ“.. إلخ الآية؛ بينما يرِد مفهوم الاتجار بشكل سلبي في سياق الارتزاق بالدين كما في قوله تعالى: “اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا”.

وَفق هذا التفريق يصل البحث إلى نتيجة تنطلق من تأمل الحالة المعاصرة، حيث عصر العولمة الذي يكرس أعلى درجات قيم الفردية والأنانية؛ مما شجَّع العديد من الشخصيات غير المؤهلة برأسمال ديني صلب يكمن في التأصيل المنهجي للدخول في الحقل الديني وابتذاله والتصدر في القنوات والمجالس والفضاءات الدينية كلاعبين فاعلين، ويحاول تتبع ظاهرة ما وصفه “تسليع الدين” عبر تتبع سياقها في التراث الإسلامي من خلال كتاب ابن الجوزي “صيد الخاطر”؛ الذي يقتبس منه الكاتب ما يتصل بعلاقة الديني بالسياسي؛ حيث الأمراء ملاك (السلطة السياسية)، والفقهاء يسيطرون على الحقل الديني. ومن هنا يقرأ الباحث تحذيرات ابن الجوزي من ارتياد مجالس السلطان؛ ويضعه ضمن سياق رؤيته حول استغلال رأس المال الديني، مدللًا على ذلك بنص ثانٍ لابن القيم في “الفوائد”: “كل مَن آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه”.

ويمضي الباحث في التدليل على أن ارتباك رأس المال الديني في التاريخ الإسلامي ظل مؤثرًا حتى في كتابات المحدَثين؛ مثل علي الوردي في كتابه ذائع الصيت “وعاظ السلاطين”، وبحث “دعوى تأثير الخلفاء والأمراء في رواة الحديث ومروياتهم” لساجدة سالم أبو يوسف؛ وصولًا إلى كتابات المستشرقين؛ ومنهم وائل حلاق في دراسته “مقالات في الفقه”، التي أرجع فيها لحظة الانفصال بين الديني والسياسي إلى وقت مبكر، وتحديدًا في القرن الثاني الهجري مع انفصال الطبقة الحاكمة عن الطبقة الدينية.

يعرج الباحث بعدها إلى أهم الدراسات الغربية التي اهتمت بمسألة “السوق الديني”، و”نظريات العرض والطلب”، و”الاحتكار الديني”؛ ومن أبرز أصحابها لورانس ر.إياناكوني الذي اشتغل على دراسة الدين ضمن منظور اقتصادي في كتابه “السوق الدينية في الغرب”، ودراسته “رأس المال البشري الديني”؛ في حين باتريك، الذي طبق نظريات بورديو على تيار الإسلام السياسي وخطابات الأسلمة التي ترفع شعارات من قبيل “الإسلام هو الحل”،  كما درس عددًا من المنتجات لتلك التيارات كالأناشيد الثورية عند الإخوان المسلمين، وجمع التبرعات لصالح الأعمال الخيرية، إضافة إلى تيار أسلمة الاقتصاد أو ما يعرف بـ”اقتصاديات الحلال”.

الارتزاق بالدين والمتاجرة لا يقفان عند الأبحاث التي تناولت الظاهرة؛ بل تعدَّيا ذلك إلى التناول السينمائي، كما في فيلم “السحلية” الإيراني (2012)، فيلم ينقُد الاتجار بالدين عبر شخصية خريج سجون اختار الهرب والاختباء تحت عباءة رجل دين إيراني، وفيلم هندي “PK”، وهو فيلم من فئة الخيال العلمي يتحدث عن كائن فضائي نزل إلى الأرض؛ ليبحث عن دين الفطرة، لكنه في نهاية المطاف يصل إلى حقيقة أن علماء الدين أفسدوا نقاء الإيمان.

يتساءل الكاتب بعد هذه المقدمات المنهجية والقراءة التاريخية للظاهرة عن رأس المال الديني ويعرفه بأنه “حزمة من المعلومات الدينية قابلة للاستثمار والتنمية والتوريث للأجيال”، فهو إذن جزء رأس المال الرمزي الذي عرفه بيير بورديو، قائلًا: “المنزلة التي يكتسبها الفرد نتيجة امتلاكه سمات محددة كالشرف والهيبة والشهرة والسمعة؛ وهي صفات تحظى بتقدير أفراد المجتمع”، وبالتالي تصبح تطبيقات النص الديني في المجتمع هي محك للجوانب الصلبة والسائلة في رأس المال الديني، ومدى قدرة البائع في السوق الديني على توجيه تلك المعارف للصالح العام أو للمصلحة الشخصية الخاصة.

ومن أجل مقاربة تميِّز بين مختلف التمظهرات لرأس المال الديني؛ يميز الباحث بين رأس المال الديني الموروث، ويمثِّل له بالقيم الدينية التي تبثها الأسرة، وبين المكتسب الذي لا يمكن الحصول عليه إلا عبر الدراسة التأصيلية للعلوم الدينية، وهذا التمييز أيضًا يستمده الكاتب من تمييز بورديو لرأس المال الثقافي الموروث والمكتسب؛ فالأول يتجسد اقتناء الكتب، والتصوير، وزيارة المتاحف، بينما المكتسب يتمثل في رأس المال الثقافي كالفصاحة اللغوية، والتحدث بلباقة.

بناء على ذلك؛ يرى الباحث أن رأس المال الديني الموروث يمكن أن نجده في البيوتات الدينية، والعائلات العلمية؛ كآل تيمية قديمًا، وآل الشيخ في تاريخ المؤسسة الدينية السعودية، كما أننا نجد رأس المال الديني المكتسب في المكتبات الخاصة، وإجازات العلماء، وفي ما يخص اللغة في الفصاحة والخطابة والوعظ المؤثر.

ولا يمكن، بحسب الباحث، التمييز في مسألة رأس المال الديني إلا من خلال فهم مسارات إنتاجه والعلامات التي تسم أفراده؛ كالزهد، وغزارة الإنتاج العلمي كما نجدها عند الشيخ بكر أبو زيد كحالة استثنائية في السياق الديني السعودي، وهو الأمر ذاته في ما يخص ملكة الحفظ التي اشتهر بها الشيخ الألباني، والشيخ عبد الله السعد. وهكذا يمكن قراءة مسارات رأس المال الديني في العديد من التجليات كجمال الصوت عند الكلباني والمحيسني، وصولًا إلى ظاهرة جديدة وهي اقتحام الفلسفة لتبخيسها والهجوم على رموزها؛ ويضرب على ذلك بكتابات د.سفر الحوالي والباحث إبراهيم السكران؛ اللذين -بحسب الباحث- يهدف تعاطيهما للفلسفة إلى تتبع زلات الفلاسفة ومزالقهم باعتبارها ردة عن الدين القويم. ويمضي الباحث في سياحته في مسارات رسملة الدين؛ ليتحدث عن تضخم في السوق الدينية سببته الصحوة الدينية التي شهدتها السعودية منذ1979 ، ويقرأ ظواهر جديدة بعد الصحوة وأهمها ظاهرة “توبة الفنانين”، وظاهرة “العائدون إلى الله” كجزء من الاستثمار لصالح إنعاش السوق الديني، حيث يؤكد الكاتب أنه سوق مقارب لمفهوم السوق التجاري MARKET PLACE، بما يعنيه ذلك من اجتماع الغرباء في حيز جغرافي أو رقمي؛ لعرض سلع وخدمات من قبل باعة رأس المال الديني.

هذه الأسواق التي راجت مع الصحوة حملت خدمات سوقية جديدة تم عرضها والاستثمار فيها بشكل مؤدلج؛ مثل ظاهرة الرقية، القنوات الدينية، الكاسيت، الكتيبات الدعوية، وصولًا إلى “الفقيه الفضائي”؛ بحسب د.عبدالله الغذامي الذي اقتبس منه الكاتب “المصطلح”؛ لشرح كيف يكتسب المستثمر الديني موقعه عبر قبول الجماهير له، دون أن يكون معينًا من المؤسسات الدينية الرسمية التي تعتبر راعية رأس المال الديني الصلب.

المنتج الديني في نظر الكاتب هو شبيه بالعلامات التجارية trade mark، فجميعها يتم طرحها في السوق الدينية، وتقديمها للمستهلك سواء عبر شركات/ مؤسسات منظمة أو أفراد، وهنا يستشهد الكاتب بوجه الشبه بتحقيق صحفي نُشر في موقع “BBC” بعنوان: “هل بات عشاق شركة آبل طائفة دينية؟”.

يغوص الكاتب في شرح أعماق فكرته؛ منتقلًا للحديث عن احتكار السوق الديني، وتأثيراته الخطيرة على المجتمعات، عبر الهيمنة من قِبَل المؤسسات الدينية أو الأفراد على المنتجات الدينية، واحتكار الحلال والحرام وَفقًا للنص المقدس، وتوجيه المجتمع عبر آليات التخويف والوعيد ، وأساليب الضغط . ويدلل على فكرته باستعارة مفهوم “أهل الصيد” الذي استخدمه زيجمونت باومان، حيث يقوم رأس المال الديني بأنانية مفرطة لا تكترث بالتوازن بالوقوع في حالة شره دائم لفرائس جديدة باستمرار، وهنا يستشهد الباحث بمقال للشيخ مجد مكي بعنوان “هل تسبب الشرعيون في موجة انتشار الإلحاد”؟

مؤشرات اختلال السوق الديني كثيرة؛ يسوق لها الباحث أمثولة “بائع الحلوى والطبيب”، حيث لا يقتنع الأطفال بتحذيرات الطبيب؛ لانبهارهم بطريقة عرض بائع الحلوى؛ وهو ما يحدث مع تجار الدين حيث يعرضون بضاعتهم عبر آليات: الزهد، ومنح القداسة، والهيمنة على العامة، والتحدث بوثوقية مفرطة، واللعب على مشاعر البسطاء.

يختم الباحث تحليلاته بقراءة السياق المضاد للاستثمار في السوق الديني، ويميِّز بين فترتَين؛ الأولى مع عصر الثورات العربية 2011، التي أظهرت أشكالًا جديدة من الفاعلين؛ كمحمد شحرور وعدنان إبراهيم على مستوى الخطاب الديني الجديد، وشخصيات كاريزمية مؤثرة؛ ذكر منهم: عبد الله جيمنستيار “داعية إندونيسي”، وماجدة عامر ” داعية مصرية من الطبقة الثرية”، ومحمد الدحيم “داعية سلفي سعودي انتقل إلى التأصيل إلى الروحانيات والتأمل، وفنون تطوير الذات”.

عام  2016 عرفت الحالة السعودية تصدعات كبيرة في السوق الديني؛ من خلال تنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع خطباء التثوير والتأجيج، وظهور أسماء دينية تجديدية كالشيخ صالح المغامسي، إلا أن مستقبل السوق الديني؛ بحسب رؤيته في خطر، حيث توقع انحسار هيمنة الملاك وخروجهم من السوق، وزيادة موجات التمرد والإلحاد، وتحول شخصيات ليبرالية/ علمانية حسب وصفه إلى التسلُّح بدراسات استشراقية كأطروحات وائل حلاق؛ لنقد الحالة الدينية والفقهية، كما يتنبأ الباحث بصراع شرس بين ملاك رأس المال الديني الصلب (العلماء التقليديين) والدعاة الجدد الذين يتحولون بشكل تدريجي إلى أسلمة علوم الطاقة والروحانيات، وللخروج من هذا المأزق فإن حوكمة النشاط الديني أحد الحلول التي يقترحها الباحث؛ للتعامل مع المستقبل.

كيوبوست