الأصول المُتخيّلة للشعوب المغلوبة..

كيف صورت الثقافيّة العربيّة القبط والأكراد والحبشة؟

ارشيفية

وكالات

تمكّن العرب في النصف الأول من القرن السابع الميلادي من فرض سيطرتهم على مساحات واسعة من بلدان الشرق الأدنى القديم، حيث بسطوا هيمنتهم الكاملة على بلاد فارس والعراق والشام ومصر والمغرب الكبير.

هذا التفوّق العسكري، تزامن مع اعتناق العرب للدين الإسلامي، ومع الدعوة للجهاد الحربي كسبيل شرعي للدعوة إلى الدين الحقّ، ولنشر الرسالة الإسلاميّة بين شعوب العالم.ِ

الحقيقة أن السيادة العربيّة بشقيها العسكري والديني، كانت في حاجة إلى مُكمّلٍ ثالث مهم، وهو المُكمّل الثقافي، وهو ذلك الذي ظهرت تجلياته بشكل واضح في مدوّنات التاريخ الإسلامي، من خلال تلك النصوص التي حاولت ربط الأصول العرقيّة للشعوب المغلوبة، بالأصل العربي بشكل أو بأخر، في محاولة لتأكيد الصبغة الشرعيّة التي اصطبغت بها الفتوحات العربيّة.

بالنسبة للأقباط من أهل مصر، فقد اعتبروا أن بلادهم "حت كا بتاح" هي الأرض المغمورة التي بدأ منها خلق الدنيا، كما اعتقدوا أن أصولهم ترجع إلى الآلهة، وبالتحديد إلى حورس، ومن ثمّ فقد حرص ملوكهم على الانتساب إليه، فكان من المعتاد أن يُلقّب كل ملك جديد باسم ملكي، وهو "الاسم الحوري"، الذي يؤكّد على صلة صاحبه بالسماء.

ينقل الطبري عن شيوخه في كتابه المشهور "تاريخ الرسل والملوك"، أن فرعون موسى الذي وردت الإشارة إليه في الكثير من المواضع في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبويّة، اسمه الحقيقي هو "الوليد بن مصعب" وأن أصله من العماليق، وأن اسم زوجته هو "أسيا بنت مزاحم"، وهي الأسماء التي توضّح عمق الاستحواذ الثقافي العربي في مقاربته لتاريخ مصر، لدرجة أنه قد حاول تجريد هذا التاريخ من كل خصوصياته المحليّة، وصبغه بشكل كامل بالصبغة العربية القُحّة.

إعلان الهيمنة الثقافيّة: من سجن الإله لتهميش الأصل العرقي

الباحث في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، منذ أقدم العصور وحتى اللحظة الآنية، سيلاحظ أن القوى الغازية دائماً ما كانت تعمل على تأكيد هيمنتها الثقافيّة، في سياق صراعها مع الحضارات المغلوبة.

تلك الهيمنة، تعدّدت من حيث الصورة والشكل، وإن بقي مضمونها وجوهرها طوال الوقت محافظاً على ثباته وجموده وفاعليته، وإذا ما تطرّقنا لتاريخ الشرق الأدنى القديم على وجه التحديد، فإننا سنجد أن من بين أبرز الأمثلة المجسّدة لتلك الهيمنة، الاستيلاء على تماثيل الآلهة المقهورة ووضعها بشكل رمزي أمام تمثال إله الشعب المنتصر، وهو الإجراء الذي تكرّر مراراً وتكراراً في تاريخ غزوات الأشوريين المظفّرة ضد أعدائهم في العراق وفينيقيا.

اليهود أيضاً، مارسوا الاستعلاء الثقافي نفسه، عندما اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار، ووصفوا كل الشعوب المحيطة بهم باسم "الجوييم"، التي تعني الأغيار، في إشارة تهميشيّة للشعوب الكنعانيّة التي أحاطت ببني إسرائيل، عقب نجاحهم في تأسيس مملكة مستقلّة لهم في أرض فلسطين.

حتى إن بعض الشعوب التي هُزمت في ساحات القتال، نجدها قد استعانت بسلاح الاستعلاء الثقافي والعرقي، ومن ذلك تهميش المصريين للغزاة الهكسوس، والذين اشُتق اسمهم بالأساس من "حق خاسوت" والتي تعني حكّام البلاد الأجنبيّة، أو ملوك الرعاة، بحسب ما يذكر الدكتور سليم حسن في موسوعته "مصر القديمة".

 

كيف نظرت الشعوب المغلوبة إلى أصولها العرقيّة؟

 

لم يكن العرب المسلمون الذين اندفعوا للسيطرة على الأقاليم المجاورة لهم في بدايات القرن السابع الميلادي، في معزل عن ظاهرة الاستعلاء العرقي والثقافي، فقد مارسوه كما مارسه سابقوهم، واستغلّوه في سبيل تأكيد شرعيّتهم السياسيّة، ومن هنا فقد عملوا على اختلاق أصول مُتخيّلة للشعوب التي قاموا بغزوها، وروّجوا لتلك الأصول في كتاباتهم التاريخيّة، بحيث شاعت وانتشرت حتى بعد انتهاء الأسباب والدوافع السياسيّة والاجتماعيّة التي استدعت ظهورها بالأساس.

من هنا يأتي السؤال وهو كيف نظرت تلك الشعوب المغلوبة لأصولها العرقيّة؟، وسنركّز هنا، على أربعة شعوب فحسب، وهي القبط، الأمازيغ، الأكراد والسودان.