الشجرة الوارفة..

اللغة العذبة في سرديات نصيف وهيب

مصالحة مع الذائقة العربية

كريم عبدالله

اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ أرواحنا بالجمال واللذة، اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا إلى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الأفق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة. اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من أعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا. 
وعلى الشاعر الحقيقي أن يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف إليها ما يوهّجها أكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتأويل، يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب إليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة .
وبعد أن حققت قصيدة النثر هذه المصالحة مع الذائقة العربية بالخصوص وكسرت حاجز النفور بينها وبين القصيدة العمودية ومنحتنا فسحة تنفّسنا من خلالها هواء جديدا صار لزاما للشاعر أن يمتلك لغة يشكّلها ويدمّرها كيف يشاء، لغة تفقد الحدود وتتفتّح عن عوالم تنبعث مما وراء الحلم تمتلك حضورا قويّا تلهبنا بسحرها وجماليتها. 
واليوم تظهر اللغة السردية التعبيرية وتمنح النصّ إمكانيات كبيرة، لأن السرد يتطلب وبشكل ملحّ لغة عذبة سلسلة تترقرق كالينبوع تحلّق عاليا مدهشة مبهرة تنفذ إلى أعماق النفس والوجدان عند كل قارىء .
والملاحظ لدى لغة الشاعر نصيف علي وهيب، من خلال متابعتنا اليومية والمستمرة لكتاباته أنها تمتاز بالتكثيف الشديد والإيجاز والتوهّج، وأن أغلب قصائده جاءت على شكل مقطوعات صغيرة كأنها غيمة حبلى بالأمطار الغزيرة تلقي حملها وتذهب بعيدا وتترك المتلقي يعيش تحت ظلالها متنعما منتعشا متلذذا بما تبعثه في نفسه. 
فمثلا نجد الرسالية الاجتماعية "البوح التوصيلي" حاضرة في قصيدته "لغة الأمل" والذي نقصد به التوصيلية الأمينة والمخلصة المحمّلة برسالة واضحة بغية الخلاص، كما في هذا المقطع: 
"مملوء قلبي بالألحان، تسكن سلم اضطرابي لوعة، أدونها مجلوة بالدمع، تتساقط من ألمي أغنية، ترددها الحناجر".
نجد هنا اللغة العذبة تتجلّى من خلال هذا التضاد اللغوي في الفقرات النصيّة أو بين المفردات، والتي كشفت لنا عن حركة تموج بها المعاني في داخل النسيج الشعري، فنجد بأن هذه الحركة حركة دائبة ومستمرة ما بين عناصر متضادة، أو صراح حركي ما بين مواقف أو حالات مختلفة داخل نفس النصّ.
وفي نصّ "أبناء الأرض" نجد اللغة العذبة متمثّلة باللغة المتموّجة التي تتناوب ما بين فقرات وتراكيب توصيلية وأخرى انزياحية، كما في هذا المقطع:
"هكذا نحن أبناء الأرض، نزرع الزيتون، نلوح بالغصن الأخضر إيماءة زهو في درب الشمس، نلمس أحلامنا، تتفتح أملا، نتنفسها مع الفجر حياة".
فبعد أن افتتح الشاعر قصيدته بهذه المقاطع التوصيلية، نجده يمارس لعبة الانزياح اللغوي في هذه المقاطع الجميلة حين نجدهم يتلمسون أحلامهم التي تتفتح على شكل آمال يتنفسونها مع كل إشراقة فجر حياة زاهية. ومن الملاحظ أيضا هنا وفي هذا المقطع قد اختزل ضمير الجماعة وعبّر عن رؤيتها من خلال موقفه ورؤيته. 
أما في نصّ "لطافة الريح" متمثّلة باللغة التجريدية حيث تتخلى المفردات عن وظيفة نقل المعنى وتسعى إلى نقل الإحساس المصاحب له كمركز للتعبير، فنجد هنا المشاعر والأحاسيس أكثر مما نرى المعني، كما في هذا المقطع:
"لطافة الريح غضبها وأنت قوي، هل كلمت الريح يوما؟ جرب صوت هزيزها، ستنشدك الفراغات أنينا، لتعرف تفعيلات الغضب".
فاللغة هنا مهمتها نقل الأحاسيس والمشاعر وليس الحكاية. فنجد هنا العنصر الخيالي والمقدرة على تصوير الأشياء تصويرا مجسّما وكأننا نتلمس هذه الصور وظلالها الرائعة، فالمفردات مشحونة بشحنات حسّية بعثت فيها كل هذه الطاقة والجمالية.

أما في نصّ "النهر بريء" فنجد اللغة الجميلة والعذبة متمثّلة من خلال هذا التوافق النثري والشعري، حيث اللغة تتمازج ما بين القرب والتوصيل وبين الرمز والإيحاء، وبين التجلّي والتعبير، أي بما يسمى وقعنة الخيال، أي إظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي للنصّ عذوبة أكثر وقربا وألفة ويزيل عنه حالة الجفاء أو الجفاف والاغتراب بفعل الرمزية والإيحاء، وكما في هذا المقطع:
"الخيبات درس، كتبهُ الزمن على سبورة الأيام، الرقم السادس للأشهر حزيران، تشرين الأول رقم عاشر، عالم الأرقام دنيا متناقضة، الصفر حدٌّ فاصل بين السلبي والايجابي".
فهذا النصّ يتحلّى بين الوضوح والعمق والسموّ، فالشاعر أراد ان يعبّر عن معنى معين بلفظ آخر مستخدما التشبيه، فألفاظه هنا مهذّبة مصقولة مشحونة بالمشاعر والأحاسيس. 
أما في نصّ "النهر يردد" فنجد الرمزية التعبيرية واضحة، بحيث ينطلق كل شيء في النصّ من داخل المؤلف وبواطنه وتصوراته، فكل التعبيرات والرؤى ومحور الكلام يتمركز على ما في قلب الشاعر، فالمتلقي لا يرى الأشياء إلا وفق ما يراه الشاعر، لقد طغت الفردية في هذا النصّ على الرؤية فأصبح الجو العام يضجّ بالانزياحات والرمزية. 
أما في نصّ "لحظات الشوق" فنجد البوح الأقصى متمثّلا بوضوح في لغة عذبة زاهية، فالكتابة هنا تشتمل على تعابير شديدة البوح، كما في هذا المقطع:
"أتخلى عن نغمتي، لأتبع دقات قلبي، نبضي يتسارع ملهوفا، للتي ربتت على كتفي، وأنا أصغر من حلم، أكبر بعينيها، تكبر بعيني جنة، أحلم بعودتها يوما".
إن هذه التعابير تحمل أقصى أشكال إبراز المكنونات النفسية عن طريق كلمات تحمل أقصى درجات البوح، فهي تتمثل في (نغمتي / قلبي / نبضي / ملهوفا / ربتت / حلم / بعينيها / جنة / أحلم) وهي مفردات قادمة من أعماق الذات الشاعرة مشحونة بالعواطف المتأججة والمشاعر المرهفة. 
أما في نصّ "لحظات أخرى" فنجد اللغة العذبة واضحة من خلال استخدام المفردات الدالة على الرقّة والعذوبة والجمال كما في هذا المقطع:
"ما بيننا؛ شذا الورد، نتقاسمهُ محبة، شوقي وشوقكِ وجهانِ للحب، لنتدفأ به كثيراً، القلوبُ المحلقةُ في السماء، ستغيثنا مودة". 
فالمفردات هنا رقراقة تنبع من نفس صافية نقيّة، استطاع الشاعر أن يمنحها هذه الطاقة من الشحنات التي تغور في نفس المتلقي دون عناء أو جهد أو مشقة. 
أما في نصّ "وردة" فنجد الشاعر قد استطاع أن يمزج ما بين الصورة الشعرية الحسّية والشمّية والذوقية والسمعية بهذا الكمّ المشرق، وكما في هذا المقطع:
أتمعنُ في بتلاتِ الورد، عطرٌ يفوح غوايةَ نحلٍ لشفاءٍ إلينا، رضابُ العشقِ، يتوهج في الشمعِ ضياء، شدَّتهُ وضوحي".
فمثلا "أتمعن" دلالة عن الصورة البصرية و"يفوح" دلالة عن صورة شمّية، و"رضاب" دلالة عن صورة ذوقيّة، و"يتوهج" دلالة عن صورة حسّية. هذا المقطع عبارة عن صورة عذبة مدهشة رسمها لنا الشاعر نصيف الشمري كونه ممن يكتب القصيدة السردية التعبيرية منذ أمد طويل .