رواية «لم يُصلِّ عليهم أحد» لخالد خليفة..

حلب في القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين

رواية لم يُصلِّ عليهم أحد

وكالات (لندن)

تصدر قريباً عن دار «هاشيت أنطوان» رواية جديدة للكاتب السوري خالد خليفة عنوانها: «لم يُصلِّ عليهم أحد». وهي رواية تحكي عن مدينة حلب في القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، عبر قصص متشابكة عن الحبّ الموؤود، والموت المحقّق عبر المجازر والطاعون والزلازل والكوليرا... ومفهوم الهويّة والانتماء وأسئلتهما. وكانت قد صدرت لخالد خليفة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (2013) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ«جائزة البوكر العربيّة» وحازت «جائزة نجيب محفوظ» لعام 2013، و«حارس الخديعة» (1993)، و«دفاتر القرباط» (2000)، و«مديح الكراهية» (2006) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ«جائزة البوكر العربيّة» كذلك. له أيضاً عدد من المسلسلات التلفزيونيّة منها «سيرة آل الجلالي» (1999)، و«هدوء نسبي» (2009)، و«المفتاح» (2011).
هنا مقطع من الفصل الأول من الرواية:
> الطوفان
حوش حنّا - حلب - كانون الثاني 1907
كانت قرية حوش حنّا صامتة تماماً حين هبّت العاصفة، وحدث الطوفان العظيم.
خلال ساعات قليلة دُمّرت بيوت القرية الصغيرة، وغرق سكّانها مع أسمالهم، لم ينجُ من الطوفان سوى ماريانا نصّار وشاها شيخ موسى زوجة زكريّا البيازيدي، تشبّثت الاثنتان بجذع شجرة جوز عالقة بين أعمدة حديد المنارة التي ترشد القوارب إلى عمق النهر. أنقذهما صيّادون فقراء، ونقلوهما إلى أحد منازل قرية قريبة بعدما هدأ كلّ شيء فجراً.
قبل أن تغيب ماريانا نصّار عن الوعي رأت جثث أمّها وأبيها وإخوتها الأربعة، طافية على صفحة النهر مع جثث أشخاص تعرفهم؛ جارتها وأولادها الستة وباقي جاراتها الفقيرات... رأت جثة خطيب إيفون، التي كانت في حلب تخيط ثياب عرسها، غير مكترثة بشائعات افتضاض خطيبها لبكارتها في مطحنة أبيه. خوري كنيسة القرية كان مبتسماً كعادته، قربه ابن حنّا الذي لم يكمل عامه الرابع مع أمّه جوزفين اللحّام الممسكة به بقوّة، كانت جثثهم تعلو وتهبط مع الأمواج كأنّهم يرقصون.
كانت ماريانا تعرف أغلب الغرقى، تلاميذها وجيرانها وأصدقاء أهلها من القرى المجاورة، وصديقاتها، كلّ الجثث مرّت بقربها، دُفنت في النهر حياة كاملة، لم تكن متأكدة من نجاتها، أغمضت عينيها مستسلمة، تستجدي يسوع، وهي ممسكة بجذع شجرة الجوز القويّة التي علقت في المنارة، لاحظت شاها قربها تضمّ جثة ابنها إلى صدرها، نجح الصيّادون في انتزاعه من بين ذراعيها بصعوبة.
رأت ماريانا الطناجر والبسط والفرش... خوابي الماء المحطمة مختلطة مع أخشاب سقوف البيوت، المرايا، صناديق الأعراس، وأشياء أخرى لم تستطع تمييزها. بقيت في ذاكرتها صورة شاها متشبّثة بابنها الميت حين قذفته الأمواج قريباً منها، وابتسامة الخوري الذي خصّص آخر عظة في الكنيسة للدفاع عن شرف إيفون وخطيبها، عاشقَي الأبد، كما كان فلّاحو قرية حوش حنّا يسمّونهما.
وصل زكريّا البيازيدي مع صديقه حنّا كريكورس عصراً بعد سماعهما خبر الكارثة، وحين تراءت لهما القرية المدمّرة من بعيد، انتابهما الفزع. لم يصدّق زكريّا أنّ شاها الغائبة عن الوعي ما زالت تتنفّس، وجثّة ابنهما الميت متكوّرة في حضنها، كانا ملتصقين. أصيب حنّا بذهول تامّ، ظنّ للحظة أنّه فقد النطق. قاده أحد الصيّادين عبر طريق ضيّق مليء بالحطام، ليدلّه إلى جثّة زوجته جوزفين، كانت أكثر بياضاً مما كانت عليه في الحقيقة، أطبقت شفتيها كالموتى، وكان ابنه قربها متخشّباً وبطنه منفوخاً كقربة.
جرجر حنّا قدميه بتثاقل، عاد من طريق النهر الذي يعرفه جيّداً، قفز فوق جثث الأبقار والأغنام والموتى، صعد الدرج الطويل إلى غرفته البعيدة. من نافذتها العريضة رأى قريته التي تحوّلت إلى طمي، وبقايا أشياء، لم يعد هناك ما يحجب الرؤية لمسافات بعيدة، كان النهر الذي يعرفه جيّداً يجري كما هو منذ الأزل، وديعاً، هادئاً، كأنّه لم يفعل شيئاً، تلتمع الشمس على صفحته كليرات ذهبية.
فكّر بأنّه أصبح مرّة أخرى وحيداً دون عائلة، اللهو أنقذه هو وصديقه زكريّا. لو تأخرا عن موعدهما في القلعة مع أصدقائهما، لكانا الآن جثتين منتفختين، تفوح منهما رائحة الموت الجماعي النتنة، التي حاول إعادة توصيفها لكنّه لم يستطع. لم ينسَ جواب ماريانا حين أخبرته بأنّ جوزفين كانت فزعة أثناء صعود روحها إلى السماء، ترفع يدها وتلتقط الهواء، وفي اليد الأخرى أمسكت ابنها بقوّة، غطست وعادت إلى سطح النهر أكثر من مرّة قبل أن تغرق وتتحوّل إلى جثة، وديعة ومبتسمة، كما كانت حين وصلت للمرة الأولى إلى حوش حنّا، ورآها جميع فلّاحي القرية تنزل من العربة. وحين ألحّ حنّا في سؤال ماريانا عن لحظاتهما الأخيرة، اكتفت بالقول إنّ الغرقى تختفي ملامحهم ولا يشبهون الموتى الآخرين.
شعر حنّا بأنّه عالق في نفق مظلم، يسمع صوت تحطّم عظام كائنات منقرضة تحت قدميه. لم يحتمل زكريّا رؤيته خائفاً إلى هذه الدرجة، تصرّف بقوّة. رتّب مقبرة القرية من جديد، بمساعدة فلّاحي القرى المجاورة، ودفن أغلب الجثث التي لفظها النهر إلى ضفّتيه. كان يعرفهم حتى بعد تشوّه ملامحهم، يعرف ندوبهم، ولون عيونهم، كان يدفن جزءاً حميماً من حياته الشخصيّة في قبورهم.
بدت المقبرة لزكريّا وحنّا في غاية الروعة، وهما ينظران إليها من نافذة الغرفة، قبور المسيحيين مصفوفة بعناية جانب قبور المسلمين، وقبور المجهولين والغرباء في صفّ ثالث منتظم، وتُركت قبور أخرى مفتوحة لاستقبال أي جثث يجرفها النهر من القرى البعيدة. منذ ثلاثة أيّام يحفر الفلّاحون القبور، ويستمعون إلى تعليمات زكريّا الذي لم يفكّر في تلك اللحظة سوى بدفن الأموات، كان يردّد أنّ الموتى سرعان ما يتحولون إلى وباء، دفن أكثر من مائة وخمسين جثة، ولم ينجُ من ملمسها البارد ورائحتها التي رافقته إلى الأبد. لم يكن يعرف أنّ رائحة الموت تعلق في الثياب، والدفن ليس أمراً أقلّ مشقّة كما تراءى له حين أعطى أوامره للفلّاحين بحفر القبور، وأرسل من يستدعي شيخاً وكاهناً لتكتمل المراسم. حضر الكاهن والشيخ ورفضا الصلاة على الجثث غير المعروفة، أو الضائعة الملامح، قال الشيخ لا يجوز الدفن على الطريقة الإسلامية والصلاة على جثّة لشخص قد يكون مسيحيّاً، وافقه الكاهن مؤكّداً أنّهم يجب أن يتأكّدوا من ديانة الجثة، لكنّ زكريّا تابع دفن الجميع على طريقته دون اكتراث بصلاتهما، مردّداً أنّ الموتى يخسرون صفاتهم الدنيويّة، ويتحوّلون إلى كائنات أخرى لا تعنيهم أمور الجنّة».