تحويل علاقاتنا بالأشياء والتجارب إلى تصورات..

كيف تعمل أنظمة التمثلات في النقد المعاصر؟

عمليتان ونظامان من التمثل يمكناننا من تأويل العالم وتنظيمه

أزراج عمر

في كتاباته المكرسة لنقد التحيّز الكولونيالي يبرز إدوارد سعيد أن مهمة النقد في عصرنا هي أنه ينبغي أن يسبر ويفكك التمثلات الكولونيالية للشرق وللإنسان في الشرق وللعالم الذي خضع للاستعمار ويخضع راهنا للسيطرة الغربية في آن معا، وبذلك ندرك أن المشروع لهذا الناقد البارز هو رصد وتحليل وإبراز التشويه الذي ألحقه ولا يزال يلحقه بمجتمعاتنا كولونيالي الأمس وإرثه المستمر في الحاضر.

كما نجد مشروع فانون قد انتقد تمثلات المستعمر للمستعمر (بكسر الميم) بحيث تمكن من ابتكار الصيغة الشهيرة التي قال فيها إن المستعمَر (بفتح الميم) اختراع استعماري. ولا شك أن ألبير ممي التونسي الأصل قد كان من الرواد المنتقدين لأنظمة التمثل الاستعماري في كتابه المعروف “صورة المستعمر والمستعمر”. وفي هذا الخصوص فإن أنظمة التمثل لم تدرس بما فيه الكفاية النقد الفكري العربي المعاصر، وأعتقد أن توضيح هذا المفهوم كما نظَر له وطوره عدد من الدارسين هو أمر يحتل صدارة الأولويات.

كما هو متداول راهنا، فإن مفهوم التمثل يشغل موقعا مهمّا في الدراسات المكرسة لنقد المواقف السلبية من الإثنيات، ولما يطلق عليه أيضا بالهويات المهمّشة في المجتمعات الغربية ما بعد الاستعمارية، وإلى جانب ذلك فإن هذا المفهوم يشتغل جيّدا في النقد السياسي حيث أن تمثّل طبقة معينة لطبقة أخرى في أي نظام حكم لا يخلو من التعسف والهيمنة والإلغاء.

ويبدو واضحا أن مفهوم التمثل يحتل أيضا مكانة استراتيجية في الكتابات النسوية حيث يتم نقد المواقف الذكورية التي تكرس الذكر باعتباره صاحب القدرة الكلية وأنه هو المعيار النموذجي أما الأنثى فتُدرج بمثابة تابع له. وهكذا فقد أصبح من الصعب جدا أن نفهم كيف يشتغل النقد الثقافي والدراسات الثقافية والدراسات الأدبية والدراسات السياسية دون الإلمام بمفهوم وأنظمة ونظريات “التمثل”.

بادئ ذي بدء ينبغي أن ندرك أن مفهوم التمثل مشروط أيضا بإدراك كيف يولد المعنى وكيف تشتغل اللغة، ولا شك أننا نجد أنفسنا هنا أمام قضايا متشابكة ومعقدة فعلا يتحتّم علينا أن ندرسها بهدوء وعناية وعمق معا. وفي الحقيقة فإن مفهوم “التمثل” غير معزول عن شتى المجالات المختلفة من الحياة البشرية ونتيجة لذلك يرى الدارسون أن معاني كثيرة قد أعطيت له وخاصة في النظرية السياسية الأوروبية والأميركية.

ففي دراساته المعنونة “التمثل: المعنى واللغة” يوضح الناقد الثقافي البريطاني ستيوارت هول أنَ “مفهوم التمثل أصبح يحتل مكانا جديدا ومهمّا في دراسة الثقافة، فالتمثل يربط المعنى واللغة بالثقافة”، كما أن “التمثل يعني استخدام اللغة لقول شيء ما له معنى عن العالم أو لتمثل العالم للناس الآخرين على نحو له معنى”، ويعني هذا عنده أن التمثل “جزء أساسي من العملية التي بواسطتها يُنتج المعنى ويتم تبادله بين أعضاء ثقافة، وأنه يتطلب استخدام اللغة والعلامات والصور التي تقوم مقام تمثيل الأشياء”. وهنا نتساءل، كيف يربط مفهوم التمثل المعنى واللغة بالثقافة؟ ففي تقدير هذا الناقد فإن “اللغة تبني المعنى، وأنها تعمل كنظام تمثيلي”، ومعنى هذا حسب استنتاجاته هو “أننا نستعمل العلامات والرموز سواء كانت أصواتا أو كلمات مكتوبة، أو صورا منتجة إلكترونيا، أو نوتات موسيقية، أو حتى الأشياء لتدل على كذا وكذا أو لتمثل للناس الآخرين مفاهيمنا وأفكارنا ومشاعرنا”. وفي التحليل الأخير فإن اللغة لا تتوازى مع العالم ومحتوياته توازيا ميكانيكيا بل إنها “الوسائط التي من خلالها وبواسطتها يتم تمثل الأفكار والمشاعر والمواقف والذكورة والأنوثة في أي ثقافة من الثقافات”. إن هذا الفهم يقودنا مباشرة إلى استيعاب حقيقة وهي أننا لا نستطيع أن نقدم أفكارنا دون اللغة والتمثل.

وهنا نتساءل، كيف يتحقق التمثيل إذن في الممارسة؟ لكي نجيب عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نتأكد من أن أي نص أدبي سواء كان قصيدة شعرية أو رواية، مثلا، ليس مجرد نقل لعلاقة التوازي اللانهائي بينه وبين العالم الخارجي وإنما هو تمثّل الذات للعالم وللمجتمع على نحو يوفر لهما غالبا الاندماج  في بعضهما البعض ليصنعا مجرة تتحرك في مدار الكون. وبهذا المعنى فإن التمثل لا يعني الفصل الاستبعادي في أي تجربة فنية وأدبية وفي التربة السياسية الديمقراطية أيضا.

فالنائب الذي يمثل منتخبيه لا ينفصل عنهم بل هو جزء عضوي منهم، وعلى هذا الأساس يلعب التمثل دورا متميزا في تحويل علاقاتنا بالأشياء والتجارب إلى تصورات تضيف إلينا فهما جديدا بالحياة ومعرفة جديدة أيضا بأنفسنا وبالآخرين، وهذا ما نجد له توضيحا في التحليل التالي للمفكر ستيوارت هول “إذا قمت بوضع الكأس التي تحملها بين يديك وخرجت من الغرفة فإنك تبقى قادرا على التفكير في تلك الكأس رغم أنها لم تعد موجودة فيزيائيا هناك. وفي الواقع فإنك لا تقدر أن تفكر بالكأس وإنما تستطيع فقط أن تفكر بمفهوم الكأس، وكما يقول علماء اللسانيات فإن ‘الكلب ينبح’ ولكن ‘مفهوم’ الكلب لا يستطيع أن ينبح أو يعضَ”.

ونستنتج مما تقدم أن الكلمة هي العلامة، وأن “التمثل هو نتاج المعنى والمفاهيم التي توجد في أذهاننا من خلال اللغة”، وبالإضافة إلى ذلك فإن الربط بين المفاهيم وبين اللغة هو الذي يمكننا من الإشارة إما إلى عالم الأشياء الحقيقي، والناس، والأحداث وإما إلى العالم المتخيل للموضوعات الخيالية والناس والأحداث”، حسب تعبير ستيوارت هول وشرَاحة أمثال جيمس بروكتر وغيره.

بعد هذه التوضيحات نعلم أن هناك عمليتين، ونظامين من التمثل يمكناننا من تأويل العالم وتنظيمه، وهما نظام التمثيل الذي يعني في نهاية المطاف ذلك النظام اللغوي الذي يجعلنا نربط “جميع أنواع الأشياء والناس والحوادث بمجموعة من المفاهيم أو التمثلات الذهنية التي نحملها في رؤوسنا”، والتي دونها “لا نقدر أن نؤوّل العالم”.

وفي هذا السياق يؤكد ستيوارت هول “أن عمليات التواصل بين الناس تستدعي التشارك في ترتيب وتنظيم المفاهيم في إطار الثقافة المشتركة ودون ذلك فإن التواصل يبطل”، كما يلفت انتباهنا إلى أن تنظيم العلامات في اللغة هو الذي “يمكننا من ترجمة أفكارنا (مفاهيمنا) إلى كلمات”. ومن ثم يؤكد لنا أن النظام الثاني يعتمد في تقديره على “بناء مجموعة من التماثلات (التطابقات) بين الخارطة المفهومية وبين مجموعة العلامات وترتيبها وتنظيمها في اللغات المتنوعة التي ترمز أو تمثل تلك المفاهيم. إن هذه العلاقة بين الأشياء والمفاهيم والعلامات تكمن في قلب إنتاج المعنى في اللغة، أما العملية التي تربط هذه العناصر الثلاثة فندعوها بالتمثل”.