تضارب مصالح وإرث دموي وتهديدات خارجية..

ترجمة: ماذا يقول التاريخ عن مستقبل الاتحاد الأوروبي؟

مجلس الاتحاد الأوروبي خلال أحد اجتماعاته

واشنطن

في الثالث من فبراير الماضي أقلعت طائرات فرنسية مقاتلة من طراز “ميراج 2000” من القاعدة الجوية الفرنسية في العاصمة التشادية نجامينا، لتنطلق شمالًا فوق السافانا والساحل الوعر، متجهةً نحو الصحراء؛ حيث قصفت طابورًا من 50 شاحنة تحمل متمردين جنوب الحدود الليبية. وتمت هذه الضربة الجوية بالتنسيق مع الحكومة التشادية القمعية والجنرال الليبي خليفة حفتر الذي يسيطر على مساحات شاسعة من ليبيا، من دون أي تنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي؛ حيث تدعم فرنسا الجنرال الليبي في حربه ضد “حكومة الوفاق الوطني”، التي تولَّت زمام الأمور بعد سقوط حكم القذافي.

وفي العاشر من أبريل الماضي عارضت باريس صدور بيان الاتحاد الأوروبي الرافض لعمليات حفتر العسكرية، والذي يحثه على وقف تلك العمليات التي يشنها على غرب ليبيا؛ الأمر الذي أثار غضب حلفائها الأوروبيين. تلك الأحداث ما هي إلا عينة تبرز تفاقم الانقسامات الأوروبية بينما تفقد أوروبا الموحدة قوتها تدريجيًّا وتنضب ثرواتها في ظل معاناة إفريقيا من الاضطرابات والصراعات من ناحية، وبزوغ نجم الدول الآسيوية من ناحية أخرى؛ ما أدى إلى إعلان الرئيس ترامب شكَّه حول جدوى التحالف مع دول الأطلسي.

على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي لا يزال ينتج 22٪ من الناتج الإجمالي العالمي، واستعداده لعقد انتخابات البرلمان الأوروبي في دورتها التاسعة؛ فإن أعضاءه لم يستطيعوا حتى الآن التصرف ككيان موحد في ما يخص السياسات الخارجية؛ حيث بدأت أولى خطوات بناء تعاون أوروبي مشترك في ما يخص السياسة الخارجية عام 1993، حين أسس الاتحاد الأوروبي آلية “السياسة الخارجية والأمنية المشتركة” كخطوة تجاه بناء جبهة أوروبية موحدة. ثم تلا ذلك تقديم ما سُمي بـ”خدمة العمل الخارجي الأوروبي” عام 2011، وهي شكل من أشكال التنسيق الدبلوماسي المشترك، يرأسه ممثل رفيع المستوى لأحد الدول الأعضاء، وتشغل رئاسته حاليًّا الإيطالية فيديريكا موغيريني.

 انقسام حاد

وبينما يوفر هذا التعاون المنظم إطارًا للدفاع المشترك ويؤسس لمشروع “جيش أوروبي موحد”، تُظهر الأحداث الأخيرة في شمال إفريقيا أن هذا التعاون قد ينهار بشكل سريع نتيجة تعارض المصالح الخاصة بكل دولة مع الأهداف العامة للاتحاد مثلما حدث مع فرنسا التي لها مصالح نفطية عديدة في الجزء الشرقي من ليبيا، والواقع تحت سيطرة المشير حفتر، كما أنها لاتزال تعد نفسها مسؤولة عن مستعمراتها السابقة في دول الجنوب مثل تشاد ومالي. في حين تتركز اهتمامات روما على طرابلس وساحل البحر الأبيض المتوسط؛ كونهما بوابة للهجرة غير الشرعية.

على صعيد آخر، منعت إيطاليا الاتحاد الأوروبي مؤخرًا من تقديم دعم رسمي للانتفاضة الشعبية في فنزويلا.
ومع المراقبة الدقيقة يتضح أن الأزمات الأقرب إلى الأراضي الأوروبية هي الأكثر إثارة للانقسام. فالاتحاد الأوروبي لم يُبدِ اهتمامًا بالصراع السوري، ولم يصدر عنه أي موقف دبلوماسي يُذكر تجاه الأزمة. لكن بمراقبة التحرك الفردي للدول الأعضاء، نجد ألمانيا تعمل منفردة على الترويج لمشروع “نورد ستريم2″، وهو خط أنابيب غاز سيؤدي إلى زيادة قوة روسيا على حساب بلدان مثل بولندا. بينما تعمل إسبانيا على إحباط الجهود المبذولة لضم دول البلقان إلى عضوية الاتحاد، وفي الوقت نفسه تؤيد منح العضوية لتركيا. وكلها أحداث تشير بوضوح إلى ضعف الدبلوماسية الأوروبية الموحدة في الخارج أمام المصالح الفردية للدول.

ولعل التقدم البطيء في عمليات المشتريات الدفاعية المشتركة يجعل أي حديث عن جيش أوروبي موحد أمرًا سخيفًا وغير واقعي. فالواقع هو أن الدول الأوروبية مازالت تفتقر إلى الحد الأدنى من التنسيق المشترك في ما يخص السياسة الخارجية والأمنية، ولا يمكن حتى الآن اتخاذ مواقف جماعية قاطعة إلا من خلال موافقة الدول الثماني والعشرين الأعضاء. ولحل تلك المعضلة ظهر اقتراح بتبني تصويت الأغلبية في مشكلات السياسة الخارجية، لكن يبدو أن هذا الاقتراح قد يفلح فقط في ما يتعلق بالأمور المتفق عليها بالفعل؛ مثل السوق الأوروبية الموحدة، بينما يبرز الشقاق مع القرارات التي تمس المصالح الفردية مثلما حدث عام 2015 عندما تجاهلت دول أوروبا الوسطى تصويتًا يفرض عليها تحمل حصة من اللاجئين.

 الصندوق الأسود

يمثل التاريخ الصندوق الأسود المحمل بجذور الخلاف الأوروبي الحالي. فلا يمكن لفرنسا وإيطاليا الاتفاق على رأي موحد تجاه ليبيا؛ لأن كليهما يراها جزءًا من مجال نفوذه. ومنذ إبرام صفقة “الراكونيجي” مع روسيا عام 1909، ابتعدت إيطاليا بشكل جزئي عن تدعيم السياسة الخارجية لأوروبا الغربية. وتمثل ذلك في ترددها في الانضمام إلى الجوقة الداعمة لفنزويلا. بينما ترجع جذور الحذر الإسباني تجاه الانفصالات الإقليمية؛ مثل كوسوفو، إلى معركتها التي استمرت قرونًا من أجل السيطرة على إقليم كاتالونيا، ويدعم التراث المغربي لإسبانيا موقفها في أن تكون جسر وصل بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ بما في ذلك تركيا. في حين ترفض النمسا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي نهائيًّا؛ متحججةً بالمخاوف القديمة من الغزو العثماني الذي وصل إلى بوابات فيينا.

ويتضح من كل ذلك أن عملية إدارة السياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي صاغتها تجارب الغزو أو التدمير أو التهديد على مر التاريخ. كما أن تحديات اليوم المتفاقمة؛ مثل صعود الصين أو أزمة الهجرة واللجوء ليست كافية لتشكيل موقف أوروبي موحد، على الرغم من كونها تحديات خطيرة وجدية. وهو الأمر الذي ينعكس على أي موقف دبلوماسي يخص الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن تُبذل أغلب الجهود نحو إقناع العواصم الأوروبية بالاتفاق المبدئي وتجنيب مصالحها الخاصة. وربما تتحول هذه التجارب المشتركة إلى ثقافة سياسة خارجية موحدة على مدى جيل أو جيلَين، لكن العالم يتغير بشكل أسرع من ذلك. وسوف تضطر أوروبا في لحظة ما إلى التغاضي عن الماضي من أجل مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

Qposts