التعقيدات والتشابكات الطاغية على الأزمة السودانية..

الفصائل المسلحة السودانية: قدم في السلطة وأخرى في المعارضة

الفصائل المسلحة تريد تثبيت قدمها في السلطة

محمد أبوالفضل

تكمن المشكلة الحقيقية في أن أي تقدم أو تفاهم يتم إحرازه بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير سيصبح رهينة ما يحدث على مستوى الحرب والسلام في إقليم دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وهي المناطق التي ينشط فيها أعضاء الجبهة الثورية، وهم: حركة العدالة والمساواة بزعامة خليل إبراهيم، وحركة تحرير السودان، جناح مني أركو ميناوي، والحركة الشعبية- قطاع الشمال، جناح مالك عقار.

يدرك قادة الحركات الثلاث، أنهم مكون رئيسي في العملية السياسية ومن المستحيل تهميشهم أو منحهم جزءا بسيطا من كعكة السلطة والثروة، فعيون قوى دولية كثيرة مصوبة ناحية السودان، وترى أن الهدوء والأمن والاستقرار والسلام لن يكون ملموسا من دون حل أزمة الفصائل المسلحة، المنضوية تحت الجبهة الثورية، وتلك التي لم تنضم إليها.

ولا تزال حركة تحرير السودان- جناح عبدالواحد محمد نور، والحركة الشعبية- جناح عبدالعزيز الحلو، خارج الجبهة الثورية، وتعارضان الكثير من القواسم المشتركة للتسوية السياسية الراهنة، ما يثير الغبار حول التفاهمات التي جرى التوصل إليها في الفترة الماضية.

أزمات متكررة

يقدّر الطرفان الرئيسيان في المعادلة السياسية، وهما المجلس العسكري والحرية والتغيير، الأهمية التي تمثلها الفصائل المسلحة، وفتح كلاهما نوافذ وقنوات تواصل معها، بعضها في الخرطوم وأخرى في عواصم إقليمية، بشكل مباشر وغير مباشر، وبدا كأن هناك سباقا حول قدرة كل طرف على جذب أكبر عدد من قيادات الحركات المسلحة إلى صفه، لأنه يعد ثقلا مهما في توازنات الداخل، ويوحي للمعنيين في الخارج بأن ثمة تقديرا عاليا للسلام في السودان.

ومُنح التفاهم مع الفصائل المختلفة أولوية فردية وجماعية، انعكس على وثيقة الإعلان السياسي عندما أشارت إلى ضرورة توفير السلام خلال الستة أشهر الأولى من تدشين المرحلة الانتقالية المشتركة، لكن جاء التوقيع بالأحرف الأولى على وثيقة الإعلان الدستوري المكملة لتثير أزمات جديدة، بحجة عدم تضمينها تفاهمات أديس أبابا بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية، أو بذريعة الكلام عن محاصصة مفتعلة، أو بسبب الغمز واللمز بشأن علاقة المركز بأقاليم الهامش والأطراف اللذين تصاعدا في الخطاب السياسي مؤخرا.

لدى قادة الحركات المسلحة قناعة أن اللحظة الحالية تاريخية في الحصول على مكتسبات نوعية، عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وإذا جرى تفويتها سوف يظل هؤلاء وجنودهم مستمرين في قتال لم يعرف غالبيتهم سواه على مدار عقود، ويتكرر مشهد السلام القلق في دولة جنوب السودان التي حصلت على الاستقلال منذ ثمانية أعوام، ثم تعثرت جميع خطواتها ما جعلها دولة فاشلة، وتحولت العلاقة بين السلطة في جوبا والحركات المسلحة إلى معضلة حالت دون الوصول إلى الاستقرار، ولا تدري الوساطة الأفريقية الآلية المناسبة لتنفيذ اتفاق أديس أبابا للسلام ووقف الحرب الأهلية.

لا يريد السودانيون في الشمال بفئاتهم المختلفة المرور بسيناريو قاتم ومشابه، ويحاولون ترتيب الأوضاع قبل أن تستقر عند مستوى يصعب زحزحته لاحقا، ويراهن عليه الغاضبون من تغيير النظام، الأمر الذي أفضى إلى الاستغراق في تفاصيل المصير الذي ينتظر الحركات المسلحة، لأنها قد تكون الفيصل في حسم ملفات كثيرة، ولن يكون هناك معنى لأي اتفاقيات بين المجلس العسكري والحرية والتغيير ما لم تنته الأزمة بصورة مرنة وعادلة ومن غير افتئات على سكان الأقاليم التي شهدت معارك ضارية لسنوات طويلة.

تمثل العلاقة بين الفصائل المسلحة وبعض القوى الإقليمية والدولية واحدة من المعضلات التي تواجه طريقة التعامل معها ومن ثم تفكيكها أو هضمها في مؤسسات عسكرية وشرطية نظامية. وهي ليست قاصرة على السودان، بل باتت طاغية في صراعات مجاورة، فعندما ترتبط حركات مسلحة بأجندات خارجية تصبح عملية التوصل إلى اتفاق معها في غاية الصعوبة، وتتوقف على إملاءات وحاجات القوى التي تدور في فلكها.

تزداد المسألة تعقيدا في السودان، لأن معظم حركاته كانت ولا تزال على صلة وثيقة ببعض دول الجوار، واتخذ قادتها من أراضيها مقرا دائما أو مؤقتا لهم، وجرى استخدامها كمكان لانطلاق جنودهم وأسلحتهم، في إطار حرب بالوكالة شاعت لفترة طويلة، علاوة على وجود علاقات خفية بين قادتها وقوى من خارج الإقليم. وهي ورقة درجت بعض الدول على توظيفها في توجيه الحلول السياسية لناحية معينة وتخريبها عند فشلها في تحقيق أهداف من يدعمون هؤلاء، ما يفسر أحد التناقضات والارتباكات في مواقف بعض الفصائل التي وافقت على أفكار ثم تراجعت عنها سريعا، إذا وجد كفيلها خسائر باهظة عند تطبيقها أو سوف يرتد إليه رزازها. إذا كانت الخرطوم طوت صفحات من الحرب المريرة وأعلنت الحركات المسلحة الالتزام بوقف العدائيات، فإن السيولة الجغرافية في المنطقة ستظل داعمة لثوابت ورؤى البعض، لأن المساحات التي تسيطر عليها داخل السودان ولها أبعاد اجتماعية ممتدة لن تؤثر على فرض حلول إقصائية، وتجعل من حضور هذا النوع من التوجهات محدودا، بما يحتم التفاهم القسري على الدرجات الدنيا التي تفضي إلى السلام، ولا مجال بعد المعاناة التي عاشها قطاع كبير من السودانيين طوال فترة الرئيس المعزول عمر حسن البشير لإعادة إنتاجها.

مكونات خارجية متشابكة

تسببت التعقيدات والتشابكات الطاغية على الأزمة في احتفاظ كل طرف بهامش للمناورة، ويمتنع عن وضع كل “بيضه” في سلة واحدة، ويتلكأ في تقديم التنازلات أو يرفض الإعلان عنها دفعة واحدة، فلدى الجميع قناعة في إمكانية الحصول على مكاسب أفضل إذا أحسنوا الأداء التفاوضي مع الآخرين، بأطيافهم السياسية والعسكرية المختلفة، ويحاول كل طرف الإيحاء لمن يجلس معه على طاولة واحدة أن جماعته بها صقور وحمائم، ما يقوده إلى تبني خيارات قد تكون خارج المنهج المقرر.

من هذه الزاوية يمكن فهم مشاهد ملتبسة مرت في السودان الفترة الماضية. وتفسير مظاهر التردد والرفض والممانعة والتحفظ التي طغت على حسابات الكثير من الفصائل المسلحة. وجعلت هناك مفاوضين في الواجهة ومعرقلين يحركون الدفة من وراء ستار.

يدرك قادة الحركات الثلاث، أنهم مكون رئيسي في العملية السياسية ومن المستحيل تهميشهم أو منحهم جزءا بسيطا من كعكة السلطة والثروة، فعيون قوى دولية كثيرة مصوبة ناحية السودان

وأدت إلى قبول البعض لمبدأ التفاهم السياسي، وعدم التفكير فيه تماما من قبل آخرين أو وضع شروط مجحفة للحوار أملا في الحصول على عائد سياسي كبير في أجواء غير مستقرة على النتائج النهائية، ولم يتم حسم حزمة متباينة من القضايا المثيرة.

تتجه الأمور إلى التوصل لصيغة وسط مع الحركات المسلحة حول جملة من الملفات الشائكة، فالوقت المتبقي للتوقيع على الوثيقة الدستورية النهائية (17 أغسطس) لن يسعف في وضع النقاط المطلوبة على الحروف، كما أن وضعها ربما لا يعني عدم إزالتها مرة أخرى، فقد عودتنا بعض القوى السودانية على نقض الوعود والعهود السياسية إذا أخفقت في تحقيق أغراضها البعيدة.

ويميل قادة الفصائل المسلحة إلى تثبيت قدم في السلطة، كي لا يتهمون من جانب قوى إقليمية ودولية بتعطيل التسوية، وقدم أخرى في المعارضة، كي لا يتهمون بالتواطؤ من قبل من قاتلوا باسمهم سنوات طويلة، وضمان الحصول على مكاسب سخية خلال المرحلة الانتقالية.