النهضة التشكيلية في البلاد العربية..

سرديات الأغلفة الأدبية

الأغلفة ممرات إلى المحتوى (لوحة للفنان علي رضا درويش)

وارد بدر السالم

يجذبنا الغلاف المميز لهذه الرواية أو ذلك الديوان الشعري أو تلك المسرحية قبل أن يجذبنا اسم المؤلف أحياناً. ويدعونا التصميم المثالي العام للكتاب أن نراه وكأنه يضم بين أوراقه وصفحاته كنوزا ثرية في أول انطباع عابر. وقد تحيلنا خطوط العناوين إلى جماليات خفيّة، مثلما يحيلنا الشكل العام للتنفيذ إلى قبول الكتاب بعيداً عن ماهيته ومضمونه.

في هذه السرديات الفنية للأغلفة ما يعيننا على أن نتصفح الكتب الكثيرة في المجالات الأدبية والمعرفية. نتصفح أغلفتها على وجه التحديد للبقاء على قيد القراءة في الآثار الجمالية التي تتركها كانطباعات أولية، فالفن لصيق الآداب وهو الوجه الآخر لها في صناعة الكتاب وتهيئته إلى القارئ. لذلك نجد دور النشر تتوخى جذب القارئ في منافسات دائمة، بعيدا عن جوهر الكتاب وأهميته، فالغلاف عتبة أولى ومرآة ضمنية لتسويق الكتاب وكسب القارئ بطريقة فيها أبعاد فنية مشوقة قبل أن تكون فيها أصداء جمالية مضمونية.

لا توجد تاريخية محددة لصناعة الكتاب العربي وتزويق أغلفته، لكن الأغلفة بعمومها قدِمت من فكرة المخطوطات العربية القديمة عندما كان المؤلف يضع أوراقه بين دفتي جلد مدبوغ لضمان عدم تبعثر أوراقه والحفاظ عليه. وكانت الفكرة أن تكون المخطوطة في مأمن من التلف والضياع. بما يعني الاعتناء بالشكل الخارجي إلى حد أن تبقى عشرات ومئات السنوات وهذا ما حصل فعليا في بقاء الأثر القديم حتى يومنا هذا، ومعنا الكثير من مراكز حفظ المخطوطات في البلاد العربية كلها بأغلفتها البدائية التي وصلت إلى عصرنا هذا باعتبارها أثراً يفسّر شيئاً من ثقافة الماضي بطريقته.

قد تكون النهضة التشكيلية في البلاد العربية ساهمت في إضفاء لمسات جمالية على الكتب الأدبية مع تطور الكتابة، وكانت الحاجة ماسّة للخروج من الغلاف الورقي ذي اللون الواحد إلى تزويقات فنية أكثر جذباً للقارئ وأكثر ملامسة للفن، تعبيرا عن علاقة ثنائية تكشف فضاءً من فضاءات الكتاب وربما تحيل إلى بعض زواياه. ونعتقد أن الفنان جمال قطب الذي رافق سرديات نجيب محفوظ بواقعيته المباشرة كان الأكثر شهرة بين مجايليه، ممن تمكنوا من إضافة لمسات فنية نوعية على روايات محفوظ وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله.

ولا شك أن الرسم الواقعي في بورتريهات قطب هو الأكثر جذبا وجاذبية في زمنه الحافل بالنجومية الأدبية والثقافية والفنية. وهو أحد الفنانين الواقعيين الذين رفدوا الأغلفة العربية؛ المصرية على وجه الخصوص؛ بتقنيات فنية ناجحة ساعدت في انتشار المطبوعات في البلاد العربية وكانت بصمته مكرّسة بسحريتها الواقعية الرصينة. وربما كان له بعض الأثر في مغادرة الكتاب ذي الغلاف الموحد باللون الواحد الذي لا يحمل غطاء فنيا ولمسة جمالية، وبالتالي ومع انتشار الأدبيات الروائية والشعرية والمسرحية والنصوص الثقافية بشكل عام، سادت السرديات الفنية على عتبات الأغلفة لتعطيها حيزاً جمالياً وتشترك معها أحيانا في المعنى الرمزي والاعتباري في تضامن مطلوب بين الفن والأدب.

اعتمد الناشرون أغلفة الفنانين على مشارف صناعة الكتاب بوقتٍ مبكر من الحياة الثقافية، فتغيرت ملامح العلاقة بين القارئ والكتاب باتجاه الترغيب الطبيعي والاقتناء المباشر كأثر جمالي، لاسيما بتطور الطباعة ودخول آلات حديثة رفعت من فنية الكتاب بأبعاد وحجوم مختلفة، وهو أمر شجّع صنّاع الأغلفة أن تكون هناك منافسة في سوق الكتب في العرض الذي خرج من وتيرية الصناعة القديمة إلى حداثة الصناعة بآلاتها وحروفها المبتكرة، وما قدمه الغرب من صناعات تجميلية في هذا الإطار، مما يجعل العناوين ذات صلة بحداثة الخط وتطوره عبر مراحل طباعية متعددة وابتكارات شكلية بَصَرية مثيرة، فضلاً عن الاستخدام الأمثل للوحات المحلية والعالمية التي تعطي للكتاب صورة مغايرة بغلاف أكثر جاذبية في المجال البَصري لتزيد من قيمة الكتاب الفنية وقيمة الغلاف الجمالية.

في فترات طويلة اهتم المؤلفون – لا الناشرون- بنوعية الغلاف الروائي أو الشعري في إيلائه عناية شخصية بوعي التراث المحلي والتاريخي الذي يشكل دعامة نفسية لهم؛ وخلفية ثقافية تاريخية، فالعراقيون دأبوا على استلهام الفنون الرافدينية القديمة والمصريون اختاروا الخلفيات الفرعونية المعروفة ترجمةً لمضامين الكتب السردية والشعرية والبحثية بشكل أكثر صلة بها. على أن يكون غيرهم قد كرّسوا القيمة المحلية بتراثياتها اليومية المبسّطة حباً بالمكان القديم وترجمة لعواطف إنسانية مفهومة من خلال اختيار لوحات أو صور يظهر فيها المكان التراثي أو الريفي.

وعلى هدي هذه الفكرة المشتركة بين مؤلفين كثيرين غادر الناشرون والمؤلفون فكرة الغلاف المتكون من اللونين الأسود والأبيض الذي يقيّد الكتاب بهما؛ فقد تدخلت الألوان الحارة والخفيفة في تشكيل صورة الغلاف وتكوينه بصريا، وهو إجراء طبيعي لشد انتباه القارئ. فالصناعة الغلافية هي صناعية بصرية بمقامها الأول تقتسمها عناصر اللون والخط والتصميم والطباعة، ثم تدخلت اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية، وفي مرحلة أخيرة من تطورات السوشيال ميديا وتعدد مهمات الحواسيب المتقدمة صناعياً، صار الفوتوشوب من أهم أركان صناعة الغلاف. وصار اللصق والتحوير والنسخ من عوامل إعادة إنتاج الغلاف جمالياً وبصرياً.