عباس بيضون يكتب:
السلطة الرابعة لم تعد السلطة
يبدو احتجاب جريدة (السفير) اللبنانية هو الحل الواقعي فيما تتخبط الصحف الأخرى وتتعثر لتحافظ على وجود يغدو اكثر فأكثر صورياً و خادعاً. فهذه جريدة النهار التي تضارعها أهمية تصرف في الوقت ذاته ثمانين من العاملين فيها لتبقى في أنظار الناس موجودة . ليست النهار وحدها في هذا الوضع ، فالصحف الأخرى لا تقل عنها بهلوانية في سعيها للحفاظ على اسمائها، على حساب المحتوى والجسم العامل.
هناك بالطبع الأسباب المعروفة: نقص التمويل وانصراف الجمهور عن شراء الصحف والاستغناء عنها بالحاسوب والتلفزيون، سعر الورق المرتفع. الأزمة، بالدرجة الأولى، اقتصادية بحيث تكاد تغيب الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية. لا يخطر لكثيرين أن الأسباب الاقتصادية نفسها متصلة بها. ما حدث للسفير وغيرها ليس فقط اقتصادياً. إنه يعود للوضع العام. انصراف الناس عن قراءة الصحف لم ينتج فقط عن اختراع الحاسوب ومنافسة التلفزيون. ثمة بالتأكيد عامل يتصل بصلة الجمهور بالسياسة وبالدولة، كما يتصل بما جد على هذا الجمهور من تغيرات طرأت بفعل الظروف وفعلت في مواجهاته وردوده وتناوله للأحداث. لم يكن الجمهور العربي، اللبناني من ضمنه، قارئاً مثابراً. لا ضرورة للعودة الى الأرقام فقد باتت معروفة. مقدار ما يقرأه العربي، واللبناني من ضمنه، زهيد وشحيح للغاية. إنه أقل من بضع صفحات في السنة، وهكذا نفهم أن القراءة لم تكن في يوم عاملاً مهماً في الحياة الاجتماعية والسياسية، لكن هذا يعني أن السياسة والأفكار والمواقف جميعها لم تكن من نتاج القراءة. كانت، على الأغلب، ثمرة الموروث والأعراف والتقاليد.
التعليم نفسه كان، منذ البدء، منفصلاً عن الثقافة أو، على الأقل، لم يؤدّ اليها. هذا يعني أن القراءة لم تكن حاضرة في تربية الأشخاص فكيف يمكن، والحال هذه، أن تؤثر في السلوك و الأفعال والمواقف. حتى المثقفين الذين ينتمون غالباً الى الطبقة المتوسطة الناشئة حديثا والمضعضعة، والتي تلقت في الغالب تعليماً أجوف وصورياً وامتصت، من هنا وهناك ، خليطاً من الأفكار والأعراف والرؤى المتضاربة، حتى هؤلاء المثقفين الذين كان جناحهم الأفقر والأكثر حماساً، مع ذلك، يعاني أكثر من سواه من هذا الخليط الفوضوي ويبالغ في تصنيمه و رفعه الى درجة القداسة هذا الجناح الأفقر كان الأكثر فعالية والأكثر تأثيراً والأشد طموحا، فقد جمع بين كليشيهات مجلوبة وخبرات محلية. إنه مثقف بمعنى أنه يستخدم الأفكار ويواجه بالكلمات.
مثقف بمعنى أنه يصوغ شعارات ويضع أهدافاً ويبشر برؤى مستقبلية. مثقف بمعنى أنه يجعل لنفسه مقام المعلم والمربي للشعب وللشباب. مثقف بمعنى أنه يعمم صوره وآراءه وينشرها ويجد لها اتباعا ومنضوين لكن هذا المثقف لم يكن يتعب كثيراً على ثقافته، كان يتلقى مبادئ بسيطة وعامة بإذعان وتسليم بالغين، ثقافته لا ترتفع عن عموميات، طنانة أحيانا وأحيانا صارمة، وعلى الدوام مختصرة، بحيث أن الجريدة كانت مثالها الأول، وبحيث أن حامليها كانوا بثقافتهم نصف الأمية أشبه بصحافيين مبتدئين، كانت الثقافة صحافية وكان المثقفون يتكلمون ككتاب جرائد وهم أيضا كانوا جد قريبين من هذه المهنة.
كانت الصحافة أيضاً من معالم الحداثة، والدول التي كانت في أوائل تأسيسها تتبنى الحداثة دعمت الصحافة بالتأييد وأحيانا بالمال، حتى بدا في أحيان أن الصحافة جزء من الدولة ولا ننسى أن الصحافة سميت بالسلطة الرابعة. السلطة، نعم الصحافة بقيت متشابكة مع السلطة وبالتأكيد أكسبها هذا، لا النفوذ فحسب ولكن أيضاً سحر السلطة إذ بدت وكأنها تتمتع بهذا السحر على مستويين، فهي السلطة المضادة وهي جناح السلطة من ناحية أخرى جاء وقت أنهت سلطات المثقفين نفسها بالاستبداد، وعدا الجناح الحاكم على الأجنحة الأخرى فأذاقها الويل وجعلها، وقد أخمد أنفاسها، تستريح من عناء السياسة ومن عناء القراءة ولو في الصحف. صارت القراءة أكثر اختصاراً وأقل جهداً في الحاسوب ثم كان التسييس السريع الذي شمل الطبقات المسحوقة في المدينة والريف. لم تعد السياسة حكراً على المثقفين، لم تعد عملاً مثقفاً ولو على مثال الصحافة. لقد عادت الى الجذور، الجذور الأصل الموروث، الحمولة والعرق والطائفة والمنطقة والناحية. لم تعد الثقافة بأي نمط وبأي مثال، مطلوبة. صار النداء القديم، نداء الأجداد، نداء المكان، نداء التراب، هو الذي يملأ الآفاق. هذا النداء يمكن أن يأتي على صورة دعوة في الحاسوب أشبه بالدعوة الى العشاء. السلطة الرابعة لم تعد السلطة ، لقد نفذت قوتها، هكذا تركتها السلطة بعد أن بطلت أن تكون جزءاً منها. لكن الصحافة نفسها لم تعد واعية لدورها. العدد الأرشيفي الذي أصدرته (السفير) كسجل تاريخي لها يشهد بذلك، إذ لا نتميز فيه البيئة التاريخية أو السياسية التي نشأت الجريدة فيها، ولا الوجهة التي شكلت مسارها.
هناك بالطبع الأسباب المعروفة: نقص التمويل وانصراف الجمهور عن شراء الصحف والاستغناء عنها بالحاسوب والتلفزيون، سعر الورق المرتفع. الأزمة، بالدرجة الأولى، اقتصادية بحيث تكاد تغيب الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية. لا يخطر لكثيرين أن الأسباب الاقتصادية نفسها متصلة بها. ما حدث للسفير وغيرها ليس فقط اقتصادياً. إنه يعود للوضع العام. انصراف الناس عن قراءة الصحف لم ينتج فقط عن اختراع الحاسوب ومنافسة التلفزيون. ثمة بالتأكيد عامل يتصل بصلة الجمهور بالسياسة وبالدولة، كما يتصل بما جد على هذا الجمهور من تغيرات طرأت بفعل الظروف وفعلت في مواجهاته وردوده وتناوله للأحداث. لم يكن الجمهور العربي، اللبناني من ضمنه، قارئاً مثابراً. لا ضرورة للعودة الى الأرقام فقد باتت معروفة. مقدار ما يقرأه العربي، واللبناني من ضمنه، زهيد وشحيح للغاية. إنه أقل من بضع صفحات في السنة، وهكذا نفهم أن القراءة لم تكن في يوم عاملاً مهماً في الحياة الاجتماعية والسياسية، لكن هذا يعني أن السياسة والأفكار والمواقف جميعها لم تكن من نتاج القراءة. كانت، على الأغلب، ثمرة الموروث والأعراف والتقاليد.
التعليم نفسه كان، منذ البدء، منفصلاً عن الثقافة أو، على الأقل، لم يؤدّ اليها. هذا يعني أن القراءة لم تكن حاضرة في تربية الأشخاص فكيف يمكن، والحال هذه، أن تؤثر في السلوك و الأفعال والمواقف. حتى المثقفين الذين ينتمون غالباً الى الطبقة المتوسطة الناشئة حديثا والمضعضعة، والتي تلقت في الغالب تعليماً أجوف وصورياً وامتصت، من هنا وهناك ، خليطاً من الأفكار والأعراف والرؤى المتضاربة، حتى هؤلاء المثقفين الذين كان جناحهم الأفقر والأكثر حماساً، مع ذلك، يعاني أكثر من سواه من هذا الخليط الفوضوي ويبالغ في تصنيمه و رفعه الى درجة القداسة هذا الجناح الأفقر كان الأكثر فعالية والأكثر تأثيراً والأشد طموحا، فقد جمع بين كليشيهات مجلوبة وخبرات محلية. إنه مثقف بمعنى أنه يستخدم الأفكار ويواجه بالكلمات.
مثقف بمعنى أنه يصوغ شعارات ويضع أهدافاً ويبشر برؤى مستقبلية. مثقف بمعنى أنه يجعل لنفسه مقام المعلم والمربي للشعب وللشباب. مثقف بمعنى أنه يعمم صوره وآراءه وينشرها ويجد لها اتباعا ومنضوين لكن هذا المثقف لم يكن يتعب كثيراً على ثقافته، كان يتلقى مبادئ بسيطة وعامة بإذعان وتسليم بالغين، ثقافته لا ترتفع عن عموميات، طنانة أحيانا وأحيانا صارمة، وعلى الدوام مختصرة، بحيث أن الجريدة كانت مثالها الأول، وبحيث أن حامليها كانوا بثقافتهم نصف الأمية أشبه بصحافيين مبتدئين، كانت الثقافة صحافية وكان المثقفون يتكلمون ككتاب جرائد وهم أيضا كانوا جد قريبين من هذه المهنة.
كانت الصحافة أيضاً من معالم الحداثة، والدول التي كانت في أوائل تأسيسها تتبنى الحداثة دعمت الصحافة بالتأييد وأحيانا بالمال، حتى بدا في أحيان أن الصحافة جزء من الدولة ولا ننسى أن الصحافة سميت بالسلطة الرابعة. السلطة، نعم الصحافة بقيت متشابكة مع السلطة وبالتأكيد أكسبها هذا، لا النفوذ فحسب ولكن أيضاً سحر السلطة إذ بدت وكأنها تتمتع بهذا السحر على مستويين، فهي السلطة المضادة وهي جناح السلطة من ناحية أخرى جاء وقت أنهت سلطات المثقفين نفسها بالاستبداد، وعدا الجناح الحاكم على الأجنحة الأخرى فأذاقها الويل وجعلها، وقد أخمد أنفاسها، تستريح من عناء السياسة ومن عناء القراءة ولو في الصحف. صارت القراءة أكثر اختصاراً وأقل جهداً في الحاسوب ثم كان التسييس السريع الذي شمل الطبقات المسحوقة في المدينة والريف. لم تعد السياسة حكراً على المثقفين، لم تعد عملاً مثقفاً ولو على مثال الصحافة. لقد عادت الى الجذور، الجذور الأصل الموروث، الحمولة والعرق والطائفة والمنطقة والناحية. لم تعد الثقافة بأي نمط وبأي مثال، مطلوبة. صار النداء القديم، نداء الأجداد، نداء المكان، نداء التراب، هو الذي يملأ الآفاق. هذا النداء يمكن أن يأتي على صورة دعوة في الحاسوب أشبه بالدعوة الى العشاء. السلطة الرابعة لم تعد السلطة ، لقد نفذت قوتها، هكذا تركتها السلطة بعد أن بطلت أن تكون جزءاً منها. لكن الصحافة نفسها لم تعد واعية لدورها. العدد الأرشيفي الذي أصدرته (السفير) كسجل تاريخي لها يشهد بذلك، إذ لا نتميز فيه البيئة التاريخية أو السياسية التي نشأت الجريدة فيها، ولا الوجهة التي شكلت مسارها.