محمد قواص يكتب:

تيار المستقبل: سعد الحريري والقرارات الصعبة

من تابع الحملة الانتخابية التي خاضها تيار المستقبل سهُل عليه استنتاج أن زعيم التيار سعد الحريري استثمر كل ما يمتلكه من كاريزما شخصية ومن زاد مرتبط بمسيرة والده الراحل للنهل من كتل انتخابية مرتبكة حائرة يتنازعها حنين لخطاب راديكالي زحفت من أجله جماهير "14 آذار" 2005، وتأمل لحال التيار وزعيمه منذ أن فرضت "واقعية" مفاجئة التبشير بالخصوم داخل الصفقة الرئاسية الشهيرة والتأقلم والشراكة مع خصوم آخرين داخل الحكومة تحت مسوغ "التضحية من أجل لبنان".

وإذا ما كانت جماهير "المستقبل" زحفت لاستقبال زعيمه في كل مرة وصل إليهم في شمال البلاد كما جنوبها وبقاعها وجبلها وعاصمتها، فإن الجموع عبّرت عن أملها بشخص سعد الحريري ليس ضد خيارات الخصوم فقط، بل، خصوصاً، ضد خيارات داخل تيار المستقبل تعكس وهناً ولبساً وشخصانية تقف وراء تصدع شعبيته على ما كشفته على نحو فاضح نتائج الانتخابات الأخيرة.

بدا أن سعد الحريري هو من نجح شكلاً في تقديم أمر الخسارة انتصاراً. وبدا أن كاريزما الرجل ما زالت تستطيع التحكم بعصب الموقف وسوقه نحو الوجهات التي يريدها. بيد أن خطاب النصر لا يخفي خيبة جمهور "المستقبل" من هزيمة لا تتناسب مع موقع الحريرية السياسية في تاريخ لبنان الحديث، ولا يخفي الخيبة التي يشعرها الحريري نفسه.

اكتشف الرجل ربما أن آلة حزبه وهيئاته تتحمل مسؤولية اتساع الهوة بين الناخب والتيار كما تتحمل مسؤولية العجز عن التسويق لتحولات سعد الحريري وواقعيته وعن الإنصات إلى نبض الشارع الذي لم يبخل على زعيم التيار بالدعم في أصعب أوقات الأزمات التي داهمته.

خسر تيار المستقبل مقابل انتصار لسعد الحريري. بدا أن تلك المعادلة تتيح لزعيم التيار الأزرق ترتيب البيت الداخلي على مقاس هذه القاعدة. توترت علاقات التيار مع وجوه داخل البيت الواحد والتبست مع تيارات سياسية يفترض أنها حليفة بمعايير "14 آذار" وباتت غامضة مع حلفاء الخارج بمعايير أرث رفيق الحريري العتيق. وفي الجدل حول ما آلت إليه أمور التيار، ضجيج عن مراكز قوى وتيارات مصالح ومحسوبيات مناطق وتنافس طموحات تتجاوز بيت الوسط وترتبط بشبكة منافع تتجاوز الحريري نفسه.

قد تكثر التحليلات المرتبطة بالقرارات التي اتخذها الحريري والتي أملت حلّ هيئات وتنسيقيات وإبعاد وجوه ومسؤولين إلى درجة الإعلان عن استقالة نادر الحريري مدير مكتب سعد الحريري نفسه. فأن تصل حملة التغييرات إلى من كان يعرف بأنه الرجل الثاني داخل التيار، فإن ذلك يعني أن تفاقم الأمور بات يتطلب محاسبة جذرية حقيقية تطال هذه المرة، إضافة إلى بعض قيادات الصف الثاني، واحداً من وجوه عائلة الحريري بذاتها.

وقد يكشف النفي الصادر عن أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري للإشاعات التي تحدثت عن استقالته، أن الزلزال هزّ بنى العائلة. فنادر الحريري وشقيقه أحمد هم نجلا بهية، عمّة سعد الحريري، والأمر يعكس عصباً عائلياً لطالما كان مثار نقد لمسألة الخلط بين العائلة بمعناها الأسري البيولوجي وتلك بمعناها السياسي التي يعبر عنها تيار المستقبل بصفته حزباً سياسياً ديمقراطياً بُنيت هياكله وثُبتت قياداته من خلال الانتخابات.

على أن بيئة التغيير التي تأخذ شكلاً انقلابياً قد فتحت شهية المناصرين لتيار المستقبل لتأمل أن تتسع موجة الإقالات لتطال "رؤوساً قد أينعت وحان وقطافها" محمّلة إياها مسؤولية الوضع الذي آل إليه تيارهم بصفته المنبر الأول وربما الوحيد المعبر عن مزاجهم العفوي ضد حزب الله وإيران والنظام السوري.

وعلى الرغم من أن تلك الأمنيات قد تحولت إلى إشاعات تتقدم بصفتها معلومات دقيقة، إلا أن أمر علّة التيار لا يمكن اختصارها فقط بشخوص احتلوا مفاصل العقد والحل، لاسيما الانتخابي، داخل التيار، بل بسلسلة خيارات سياسية قبلها الحريري ونظّر لها بغض النظر عن الجدل حول وجاهة هذه الخيارات ونجاعتها.

وفيما تعبّر قرارات سعد الحريري الداخلية عن علاج بالكي لأمراض داهمت تياره، إلا أن تغييب وجوه بعينها قد يكون مقدمة لتحوّلات سياسية ولترشيق الجدل الداخلي على نحو يعيد تسليط المجهر على ظاهرة غياب وجوه قيادية قديمة (أبرزها فؤاد السنيورة) برزت وبرعت في مقاربتها للصراع الذي دخل فيه التيار عقب اغتيال الحريري الأب، ناهيك عن ظواهر انشقاق قذفت بوجوه أخرى خارج حلبة الفعل والقيادة المستقبليْن.

والخشية في ما فاجأ به الحريري الرأي العام، أن يكون الترتيب الداخلي، وإن طالت درجاته حد مغادرة نادر الحريري سفينة إبن خاله، لا يرقى إلى مستويات تطال جذور الوهن، وأن لا تعالج الجراحات صلب الورم بل أعراضه. وقد يكون من المبكر جداً الحكم على حدث عمره عمر الساعات الأخيرة، إلا أنه على الأقل يعبر عن إمساك الحريري الكامل بمقود حزبه بحيث يسجل له أنه أخذ العبر من نتائج الانتخابات ويتصرف بسرعة لتشخيص الداء ووصف الدواء.

وللتذكير فإن مسألة ترتيب البيت الداخلي لتيار المستقبل كانت أثيرت بقوة إثر الأزمة الكبرى التي سببتها الاستقالة الإعلامية التي تقدم بها سعد الحريري من الرياض في نوفمبر الماضي. وطال ضجيج ذلك الحدث مصير نادر الحريري كواجهة مسؤولة عن الدفع بتيار المستقبل وزعيمه باتجاه خيارات لا تروق للسعودية. ورغم أن بعض الوجوه المستقبلية قد خفت حضورها بعد تلك الأزمة، فإن نادر الحريري بقي الرجل القوي داخل التيار والساعد الأيمن لزعيمه والمشرف الأول على تفاصيل الانتخابات لوائح وتحالفات ومنسقيات ومكنات انتخابية. والظاهر أن دواعي تلك الانتخابات وظروفها كما التراجع في خلاصاتها هو ما أعاد الحرارة إلى قرار "تحييد" نادر، كشخصية مثيرة للجدل داخل "المستقبل" كما لدى حلفاء الحريري في الخارج.

غير أن غياب نادر الحريري، الذي لا يعرف حتى الآن إذا ما كان الأمر إقصاءً له أم إعادة تموضع تحضره لمناصب أخرى، يترتب عليه ما يمكن أن يعيد قراءة تفاهمات الصفقة الرئاسية التي يلمح حزب الله إلى انتهاء صلاحيتها.

لاستقالة الرجل، وإن كانت شأناً حزبياً مستقبلياً داخليا، تداعيات على كمّ من التفاهمات السياسية الكبرى التي هندسها يوماً بعد يوم لصالح عودة سعد الحريري رئيساً للوزراء. ولئن عمل نادر خلف الكواليس على ترتيب ما كان يجاهر سعد به، إلا أن الكيمياء التي توفرت بين "إبن العمة" وصهر الرئيس ميشال عون جبران باسيل، أسست تراكماً لاتفاقات أفضت إلى "شهر العسل" الذي يعيشه تيار المستقبل والتيار الوطني الحر.

ومقابل تفاهمات نادر-جبران ابتعد تيار المستقبل عن حلفاء طبيعيين. صحيح أن قانون الانتخابات الجديد دفع كافة التيارات السياسية إلى سلوك خيارات أنانية وأن المصالح الانتخابية أنتجت تحالفات فرانكشتينية، إلا أنه إضافة إلى ذلك، بدا أن الخطاب السياسي المستقبلي بات بعيداً عن "القوات" و"الكتائب" "والاشتراكي" ومستقلي "14 آذار". وعلى هذا فإن قرارات سعد الحريري تأخذ بعداً تقنياً إدارياً من جهة، لكنها من جهة أخرى تأخذ أبعاداً سياسية غير واضحة النهايات تأتي عشية المداولات لإنتاج السلطة في لبنان ولإنتاج مشهد آخر على المستويين الإقليمي والدولي.