ما بين اختيارات المواطن.. وخيارات الرعوي

كل من اعتقدوا أن اليمن قد صار ملكاً لهم، يتصرفون به وبمقدراته كما يحلو لهم، رماهم خارج بحره كجيف تعفنت فوق كراسي السلطة ونفوذها بدءاً من بيت حميد الدين وموروثهم بمسمياته العديدة. تقدم الحياة دروساً من واقع ما شهده هذا البلد من تجارب، لمن يريد أن يتعلم، أن الحكم ليس مجرد سلطة، ولكنه اختيارات انسانية قبل كل شيء وهي ليست اختيارات الحاكم فقط ولكنها اختيارات الشعب في الأساس.

 الحكم الذي يقترن بالسلطة دون أن يتحرك في توافق مع هذه الاختيارات الانسانية لا يكون أكثر من تسلط ينشئ معادلاته بمجاهيل كثيرة .. يكون العنف والتآمر والخيانات والفساد هي «المالانهايات» التي لا ينتهي إليها حل المعادلة إلا بالدم، كما رأينا في كل التجارب اليمنية.

 أدرك اليمنيون هذه الحقيقة بعد أن تخبطوا عهوداً طويلة في مشاريع نخبوية واستبدادية، وعقدوا العزم على تغيير خط السير نحو فضاءات سياسية جديرة بهم كشعب عريق عبر حوار وطني شامل، وعلى طريق تشييد دولة يصنع خياراتها مواطنون لا رعية.

 كان قرار الانتقال إلى المواطنة عملية ثورية بكل المقاييس، وهو ما دفع حراس النظام الرعوي القديم من مخلفات الكهنوت وأدواته العنصرية الطائفية، وحلفاءهم من حراس ميراثه القبيح، أن ينقلبوا على هذه العملية التاريخية ويغرقوا اليمن في بحر من الدم. لم يكن في مقدورهم الابحار سوى فوق مركب لا يطفو إلا على الدم، ووسط خرائب وحرائق عمت اليمن من أقصاه إلى أقصاه، ومأساة سجلت على أنها الأبشع في التاريخ رفضوا المواطنة وتمسكوا بخرافة السلالة في أسوأ خيار لا يمكن أن تكون محصلته إلا هذا الدمار الذي حل بالبلاد.

رفضوا الفضاء الوطني الواسع وهدموا الجسور مع الوطن، وأقاموا جدراناً من العزلة بمنافذ لا تتسع إلا لفوهة المدفع. الآن وبعد أن طوت الحرب الكارثية أهم حلقات المشروع العنصري الطائفي بعد أن اقتحم مسار التغيير السياسي والاجتماعي السلمي الذي شكل تواصلاً مع نضال الحركة الوطنية اليمنية منذ الخمسينات، لا بد أن نراجع الوضع داخل المكون الواسع للطرف الذي يعتبر نفسه امتداداً لهذه الحركة الوطنية لنقرأ بمسئولية واقع الحال. ونبدأ بالسؤال عن مفهوم «الوطن» عند هؤلاء، والذي طحنت وتطحن الآن آلاف الجماجم من أجله.

الحقيقة أن هذا «الوطن» غاب ويغيب داخل عنوان فضفاض للجمهورية التي جاءت ذات يوم تحمل مشروع «وطن» فنهبت وتعثر ميلاد ذلك الوطن.

 وجاءت الوحدة السلمية حاملة حلم الحركة الوطنية بإنشاء «الوطن» الذي بشر به روادها الأوائل فأجهضت في مهدها بمشروع الإلحاق الذي أبقى «الوطن» قيمة مقموعة بنفس السلاح الذي نهب الجمهورية.

 لا يوجد دليل على أن «مشاريع» الحكم القادمة والتي يبلورها المشهد كأمر واقع في قلب المأساة التي تطحن البلاد قد تعلمت أنه لم يعد هناك من سبيل لتجنب الحروب والصراعات غير طريق واحد هو بناء «الوطن» بالمفهوم الذي يتحول فيه الانسان من «رعوي» إلى «مواطن» بكامل الحقوق السياسية والطبيعية والانسانية، مواطن يكون مصدر السلطة ومالكها ومحرك اختيارات الأمة دون وصاية من نخبة أو جماعة أو سيد أو أكليروس بصفته صاحب مرجعية هي الحق وما دونها الباطل، مواطن به تتجدد السلطة، وبإرادته يصاغ القانون ويحترم النظام. نتلفت يساراً ويميناً شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً فنجد الصورة مخيفة فيما تمدنا به هذه الصورة من حقائق عن هذه «المشاريع» وبأنها ليست سوى امتداد مباشر للتسلط الذي كرس سلطة الحاكم المستبد وقمع اختيارات الشعب.

أقول هذا بالرغم من أن الحوار الوطني قد وضع خارطة دولة المواطنة القادمة بصورة توافقية هي من أجمل ما صاغه العقل اليمني، حينما يتعلق الأمر بمضمون الدولة، غير أن مصدر الخوف هو أن ما كشفته وقائع الحياة من أن الفجوة الكبيرة بين ما كتب في الوثيقة وما يصنع في موازاتها من حوامل سياسية واجتماعية غرائبية للمستقبل من الممكن أن تبتلع الحلم بمثل هذا «الوطن» تماماً مثلما ابتلع قديماً بتحريض الجمهورية المنهوبة عليه وبتخريب صلته بالوحدة. لنفكر في مجمل الصورة بهدوء لنكتشف أن ما يجب أن نعمله على الخارطة السياسية لا يقل أهمية عن الجبهة العسكرية. لا خيار إلا أن يكون لدينا «وطن» ونكون فيه مواطنين يصنعون خياراتهم بإرادتهم لا بإرادة المرجعيات أو النخب أو السيد.