محمد قواص يكتب:

ترامب: الرجل الذي يمل الحلفاء ويدهشه الخصوم

يتقدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطوة جديدة على طريق هزّ أعمدة النظام العالمي الذي حكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تكاد مشاركته في قمة الدول السبع الكبرى في مقاطعة كيبيك في كندا أن تكون تمرينا في مواجهة الخصوم أكثر من كونها البيت التقليدي للقوى الصناعية الكبرى الذي يفترض أن يجمع زعيما أميركيا بحلفائه التقليديين. وحين يسأم ترامب من المناسبة وضيوفها يسأل باستغراب: أين العضو الثامن؟

بات ترامب يشعر بالغربة جراء ابتعاد روسيا عن المحفل الاقتصادي السياسي الكبير المفترض أن يدير أمور العالم. أين روسيا؟ يسأل الرئيس الأميركي متبرّما من هذا الموقف الغربي الذي يمارس الحرد ضد موسكو. تبدو واشنطن في عهد هذا الرجل مدافعا بشراسة عما كان مفترضا أن يكون خصم الولايات المتحدة الأول. ويبدو فلاديمير بوتين مغتبطا بهذا السجال الصاخب داخل البيت المقابل، منتشيا بتفاني سيد البيت الأبيض في السؤال عنه وعن الأسباب التي لا يفهمها لغيابه.

من الواضح أن دونالد ترامب يبحث في كل مناسبة عن أن يُحدث صخبا يعتقد أنه سيُسجل في التاريخ. هكذا لاحظ كم أن الأضواء انجذبت نحوه معلنا لوائح البلدان الممنوع على مواطنيها زيارة الولايات المتحدة. أثار الأمر صخبا وجدلا وبعض المظاهرات، لكن رجل أميركا القوي تمتع حتى الثمالة بأنه الاسم الذي بات “مالئ الدنيا وشاغل الناس”، فأعاد الكرة متباهيا. أخرج من خزائن بلاده العتيقة قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل فكان أن أحدث زلزالا. ورمى بالاتفاق النووي الذي استمات سلفه باراك أوباما في إنجازه وراح يتلذذ كل لحظة بالفوضى التي يحدثها تفكيك الأشياء.

لم يلحظ ترامب ما يثير شهيّته في كندا. حتى الصورة الشهيرة التي بدا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل محاطة بـ”الشلة” الغاضبة تؤنبه وتوبّخه، قدّمها الرجل بصفتها تبادل حديث عادي بانتظار الانتهاء من تحرير إحدى وثائق الاجتماع.

باختصار الحدث مثير للملل بالنسبة إليه عشية ما يثير شهيته للفرجة والبهرجة في المقلب الآخر من العالم، في سنغافورة. ابتعد ترامب عن كندا وقصف أصحابها بتغريدة تسحب توقيع بلاده عن وثائق الكيبيك. هنا فقط أصبحت المناسبة حدثا.

يريد ترامب أن يدخل التاريخ حتى لو كان هذا الدخول متخيّلا ولا بنى دائمة له. يعتبر أن الخصام مع كندا ورفع جدار على الحدود مع المكسيك والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والتمنّن على الحلفاء في الأطلسي وإعدام نظام الرعاية الصحي المسمى أوباما كير حصى يرميها على طريق المجد نحو التاريخ. قيل إن وفدا من كوريا الجنوبية قصد واشنطن لتقديم مقترح خجول من زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون لعقد قمة تجمعه مع رئيس الولايات المتحدة. بكل بساطة فوجئت سيول كما بعض أركان الإدارة الأميركية بأن ترامب وافق فورا.

سواء أحببت الرجل أم كرهته فإن دونالد ترامب يعبث برقعة الشطرنج على هواه مربكا كافة اللاعبين. يتصرف الرجل بصفته ملك هذا العالم الذي “يكش” كل الملوك غير آبه بالعقلانية التي تخرج من التقارير وغير منضبط داخل قواعد الممكن والمقبول.

التأمل لمسارات صواريخ كيم الكوري وتغريدات دونالد الأميركي يكشف أن الأمور كانت محسوبة بدقة بحيث أن لمسارات الصواريخ الكورية وقعا تهويليا كبيرا قليلا ما اهتم له خبراء البنتاغون. كان ترامب يعلم ذلك فأطلق لتغريداته العنان نافخا الريح في أشرعة الحاكم في بيونغ يانغ

وصل العالم إلى شفا الدمار الشامل إثر اندلاع الحرب الكورية في الخمسينات أو عقب تفجّر أزمة الصواريخ في كوبا في الستينات أو في مفاصل أخرى حفل بها المنتصف الثاني للقرن العشرين، حيث بدا استخدام الأسلحة النووية حتميا. غير أن لهذا العالم بمجانينه آلية عجيبة أعادت دائما العقارب المضطربة إلى مواقيتها ووجهاتها المتعقلنة. لا يخرج دونالد ترامب عن هذه القاعدة.

انطلقت صفارات الإنذار في اليابان وصفارات أخرى على حدود كوريا الجنوبية ووضعت الأجهزة الأميركية في حالة استنفار قصوى في جزيرة غوام في المحيط الهادي. العالم حبس أنفاسه من دمار دموي قد يؤدي إلى دمار مضاد جراء هذا “المجنون” الذي يحكم كوريا الشمالية.

استخدم ترامب كل مواهبه التغريدية لإقناعنا جميعا بأن البلدين ذاهبان إلى الصدام الحتمي الكبير. غير أن تأملا لمسارات صواريخ كيم الكوري وتغريدات دونالد الأميركي يكشف أن الأمور كانت محسوبة بدقة بحيث أن لمسارات الصواريخ الكورية وقعا تهويليا كبيرا قليلا ما اهتم له خبراء البنتاغون. كان ترامب يعلم ذلك فأطلق لتغريداته العنان، نافخا الريح في أشرعة الحاكم في بيونغ يانغ.

يفكك دونالد ترامب هذا العالم. لا تهمّه حرفة إعادة التركيب. تتماسك البنى الدولية المتراصة حول الصين في شنغهاي أو حول موسكو في بحر قزوين أو تجمع دول بريكس. بالمقابل تتفكك العلاقة داخل البيت الغربي. يعمل ترامب بدأب على تعميق الخلاف التجاري بين بلاده ودول الاتحاد الأوروبي. يقترب الرجل من تركيا في وقت تتوتر فيه علاقات أنقرة مع الجوار الأوروبي. يُمنّن الأوروبيين بغطاء أمني أميركي لم يعد مضمونا وبحلف أطلسي مشتت الهوية والأهداف ويدفعهم إلى تيه يتحرون دفاعا ذاتيا معقدا يقيهم أخطارا عتيقة لا تغيب.

لا يبدو أن بكين وموسكو تشعران بأي قلق تجاه ما يخرج عن مزاج دونالد ترامب في واشنطن. تخلص العاصمتان إلى أن رجل أميركا يصبو إلى الاتفاق معهما معجبا بروسيا والصين كدولتين عظميين في الجغرافيا والتاريخ. يصف رئيس وزراء الصين بأنه رجل عظيم ويصف الرئيس الروسي بأنه رجل ذكي. وحين يلتقي بهما يخرج فخورا مادحا ممازحا منتشيا على عكس الانطباع الذي يخرج به من أي اجتماع مع أي زعيم غربي. هل يجب التذكير بأنه رفض مصافحة المستشارة أنجيلا ميركيل وتحولت مصافحاته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مبارزة عضلية تلتقطها الكاميرات.

يهزّ ترامب الأعمدة المؤسسة للعولمة. يعيد رفع الحدود بين الدول معيدا النفخ بعصبيات قومية تحت قناع الدفاع عن المصالح التجارية للولايات المتحدة. يستند الرجل على فلسفة في علم السياسة مفادها أن العالم يكون أفضل إذا ما تأسس على مسلّمة دفاع كل بلد عن مصالحه الذاتية، أو يكاد يقول الأنانية. هي وصفة لنشوب النزاعات والحروب أيضا. هكذا عرف العالم ويلاته في التاريخ وهكذا تماما اندلعت حربين عالميتين خلال عقدين في النصف الأول من القرن الماضي. بالمقابل يحاول شركاء واشنطن بصعوبة أن يقاوموا تدابير ترامب ضدهم، متسائلين بحيرة إلى أين يتجه العالم إذا ما قوبلت تدابير الـ”أنا” بتدابير أنا مضادة؟

يوقع ترامب “انتصاره” في سنغافورة ممنيا النفس بانتصار آخر ضد إيران. من هناك يطلق رسائله صوب طهران: سوف تأتون لطاولة المفاوضات كما أتى صاحبكم في كوريا الشمالية. وقد يقول قائل إن حسابات بيونغ يانغ التي تطل عليها الصين العملاقة تختلف عن حسابات الطهران، وأن للعب في الشرق الأوسط قواعد وشروطا ورياحا قد لا تأتي بما تشتهي سفن ترامب المبحرة.

كل ذلك لا يهم. سيجد ترامب منابر أخرى للفرجة التي تسلّط مجهرا عليه فيما العالم يتخبط لتهدئه سفنه من أمواج تدفع بها تجارب الرجل التفكيكية.