محمد قواص يكتب:
معركة الحديدة.. اقرأ نصوص بومبيو
يمثل قرار خوض معركة الحديدة تطورا مفصليا على طريق وضع حد للحرب في اليمن. ويكشف أمر هذه العملية عن مقاربة مشتقة من منطق عملية “عاصفة الحزم” التي قاربت اللجوء إلى القوة بصفتها الحل الوحيد لبسط طاولة مفاوضات لحلّ الأزمة اليمنية.
بيد أن جديد الحديدة هذه المرة أن المعركة تُخاضُ بتغطية من عواصم القرار الكبرى التي لطالما ماطلت وتلكأت ووضعت العراقيل القانونية والإنسانية والسياسية أمام حرب هدفها تحرير أهم منفذ بحري لليمن كمدخل لتحرير اليمن كاملا.
تميط عملية الحديدة اللثام عن مزاج دولي متغير تجاه التعامل مع الحالة الإيرانية. كان اليمن جزءا من ميادين عديدة بسطت طهران نفوذها عليها، وضمت صنعاء إلى مجموعة العواصم العربية التي فاخرت طهران باحتلالها.
تعاملت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مع اليمن بصفته غنيمة من غنائم المنطقة المتنازع عليها مع السعودية وحلفائها، ولا حلّ لقضاياها إلا بـ”اقتسام النفوذ مع إيران” حسب “عقيدة أوباما” الشهيرة التي توسّع في شرحها في مقابلته الشهيرة في صحيفة “ذي أتلانتيك” الأميركية عام 2016.
قبل عام تماما كانت مسألة الحديدة مثار نقاش في واشنطـن وباريس ولندن. سألت هذه العـواصم كثيرا شخصيات يمنيـة وخبراء في شؤون اليمن في ملفات الأمن والعسكر والسياسة حول رأيهم بمعركة عسكرية يقترحها التحالف العربي بقيادة السعودية لتحرير الحديدة ومينائها.
كان دبلوماسيو تلك العواصم يستمعون ويصغون باهتمام دون أن يشي ذلك أن المزاج الدولي يميل إلى حسم عسكري. قدمت العواصم حجج الخوف من الكارثة الإنسانية لحجب الضوء الأخضر عن العملية.
فما الذي جرى حتى تبدل رأي الدول الكبرى، وباتت مشاركةً بشكل أو بآخر في تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي لمعركة تحرير الحديدة، تاركة إلى الجمعيات الإنسانية المتخصصة أمر التحفظ والقلق؟
والحقيقة أيضا أن جدل المعركة قبل عام لم يكن غربيا دوليا فقط. جرى الجدل داخل الغرف المغلقة لقوات التحالف العربي. بدا أن الرياض وحلفاءها يستمعون إلى ضجيج مجلس الأمن وتحفظات الدول الكبرى، ولا يستخفون بالجوانب الإنسانية التي قد تجرّها معركة كبرى بهذا الحجم.
حين بدأت العمليات العسكرية فجر 25 مارس 2015 أعلن عادل الجبير من واشنطن، وكان حينها سفيراً للسعودية في واشنطن، بدء انطلاق عملية “عاصفة الحزم”. لم يكن القرار السعودي على رأس التحالف العربي يحظى برضا إدارة أوباما.
لم تعترض واشنطن لكنها لم تقدم في الدبلوماسية والعسكر ما يجب أن توفره دولة حليفة لحلفائها. لم تعوّل الرياض كثيرا على دعم أميركي كامل، ذلك أنها وحلفاءها الخليجيين اعتبروا أن أمر هذه العملية يفرضه منطق الأمن الإستراتيجي الداهم الذي قد لا تتّسق إيقاعاته العاجلة مع حسابات الولايات المتحدة وبقية دول العالم. غير أن الرياض كانت تدرك أيضا أنها لا تريد خوض معركة تبتعد عن رعاية دولية، أو تنفصل عن السياق الدولي العام.
لم يتغير أمر مصير الحديدة والمقاربة الأميركية للأزمة اليمنية كثيرا حين تبوّأ دونالد ترامب سدة الرئاسة في بلاده. ما تغير هو موقف واشنطن لاحقا من طهران وانقلاب الموقف الأميركي جذريا من الحالة الإيرانية.
فككت الإدارة الحالية حجرا بعد حجر جدار إستراتيجية “الاحتواء” القديمة للإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل مع طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية. انقلب مفهوم الأمن الإستراتيجي في الولايات المتحدة بحيث باتت الحالة الإيرانية لا تمثّل فقط أخطارا على حلفاء واشنطن في المنطقة، بل بات نظام الولي الفقيه يشكل خطرا مباشرا على أمن الولايات المتحدة الاستراتيجي.
في 18 يونيو الحالي ألقى مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي محاضرة في نادي ديترويت الاقتصادي. تحدث الرجل كثيرا عن علاقة السياسة الخارجية لبلاده بالنمو الاقتصادي للشركات داخل الولايات المتحدة.
قال “كتب وزير الخارجية توماس جيفرسون في العام 1790 أن حماية التجارة الأميركية في البحر الأبيض المتوسط كانت مركزية بالنسبة إليه، وأشار إلى أنها كانت تعاني بسبب هجمات قراصنة شمال أفريقيا على سفننا التجارية. المشكلة مختلفة بعض الشيء اليوم ولكن ما زالت سرقة أغراضنا تشكل تحديا مركزيا للولايات المتحدة”.
باتت “أميركا أولا” في عرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفريقه تمر بالقوة التي تملكها “أميركا” في الخارج.
معركة الحديدة تأتي متطابقة تماما مع منطق الأمور لجهة تحرير اليمن من أي نفوذ يسمح للنظام في إيران بامتلاك أوراق تتيح له أن يكون شريكا في ملفات المنطقة
يروّح بومبيو أكثر من ذلك، يقول “تشير إستراتيجية الرئيس ترامب إلى أن الأمن الاقتصادي يوازي في الواقع الأمن القومي. الأمنان مترادفان كما وصفهما”. على هذا بات وفاء رجل أميركا الأول بوعوده الانتخابية لرفع الأداء الاقتصادي ومعدل النمو وخفض معدلات البطالة يمر حكما من خلال القوة في الخارج.
في 21 مايو الماضي أعلن بومبيو للعالم إستراتيجية بلاده حيال إيران. أتى الإعلان مكمّلا لقرار ترامب في 8 من نفس الشهر بالانسحاب من الاتفاق النووي.
قدّم بومبيو شروطا لا يمكن اعتبارها إلا وصفة لإسقاط النظام في طهران. جاءت شروط تصويب الاتفاق الشهير عرضية مقارنة بأخرى لا تطل منها إلا خارطة طريق لتبديل جذري لنظام الجمهورية الإسلامية. لن تقبل طهران بشروط بومبيو، لكن واشنطن وتيار متصاعد في العالم (قد لا تكون موسكو بعيدة عنه) لن يسمحا باستمرار الحالة الإيرانية في وقت يجري فيه التعامل مع حالة كوريا الشمالية.
تبدَّل مزاج واشنطن بما بات يقترب من مزاج الرياض وحلفائها في مقاربة الحالة الإيرانية. لا تعتبر السعودية العراق وسوريا واليمن ولبنان مناطق متنازع عليها مع طهران بما يسمح بنقاش مسألة “تقاسم النفوذ مع إيران” العزيزة على قلب أوباما.
بدا أن الولايات المتحدة صارت تدرك الآن أن اليمن بلد يجب أن يكون ذا سيادة تخصّ اليمنيين وحدهم، وأنه في الوقت عينه حديقة أمن خلفية للسعودية ودول الخليج وأن لا مكان لإيران به ولا غنائم فيه ممكن التفاوض لاقتسامها.
تأتي معركة الحديدة متطابقة تماما مع منطق الأمور لجهة تحرير اليمن من أي نفوذ يسمح للنظام في إيران بامتلاك أوراق تتيح له أن يكون شريكا في ملفات المنطقة. لليمنيين والرياض والحلف العربي أسبابهم لتخليص اليمن من نفوذ إيران. ولواشنطن وباريس وحتى لندن أسبابها لإعادة الأزمة اليمنية إلى مربعها المحلي.
في محاضرته في ديترويت يقول بومبيو “نحن نعمل أولا على الحفاظ على السيادة الأميركية على الساحة الاقتصادية العالمية، ذلك أن ما نخسره اقتصاديا في العالم سيكون لصالح الصين”.
ترى واشنطن أمور العالم من منظار مصوّب نحو الصين، ومن هذا المنظار تماما تقارب إستراتيجياتها في الشرق الأوسط. وفي الطريق لرد المارد الصيني المتعملق تزيل واشنطن معوقات إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يعيد إيران إلى إيران، وينهي ظاهرة الاستثناء التي حظيت بها منذ حوالي 4 عقود. هنا فقط نفهم معركة الحديدة.