محمد قواص يكتب:
تمرد البازار
تكرّر السلطات الإيرانية بملل أن مظاهرات البازار الأخيرة خرجت احتجاجا على تراجع الأداء الاقتصادي ولا صبغة سياسية لها ضد النظام في طهران. أكثر من 70 مدينة كبرى خرجت أواخر العام الماضي احتجاجا على تراجع مستويات المعيشة وارتفاع الأسعار وضمور الخدمات الإنمائية، ومع ذلك لم يجد حكام إيران في ذلك مضمونا سياسيا يذكر. وحين هتف هؤلاء وأولئك مطالبين بخروج إيران من الميادين الخارجية لا سيما من سوريا، جرى تأكيد أن ذلك من رجس “مندسّين”، ولا يعبّر عن رسائل المتظاهرين.
أن يخرج البازار فذلك أمر لافت يهزّ أركان نظام الولي الفقيه. فللبازار في إيران حكايات في تاريخ البلد يتجاوز موقعه التقني بصفته سوقا للتجارة المركزية ورمزا من رموز توزيع الثروة. فوراء كثير من الاحتجاجات الكبرى منذ القرن التاسع عشر وقف البازار، بما في ذلك وقوفه خلف الثورة التي قلبت نظام حكم الشاه وأقامت الجمهورية الإسلامية في البلاد.
يعرف أولو الأمر في طهران أن خروج البازار يمثّل تجاوزا للخطوط الحمر. جرى قبل ذلك التعامل مع مواسم الاعتراض بصفتها “مؤامرة” يحيكها أعداء “الثورة”، واستطاع نظام طهران منذ عام 1979 قمع معارضيه بالاغتيال أو الإعدام أو السجن أو الإقامة الجبرية. غير أن “تمرد” البازار يعتبر زلزالا يهدد استقرار النظام الذي لطالما استند على تحالف غير معلن بين “البزنس” والمؤسسة الدينية في قم، فإذا ما سحب البازار غطاءه عن حكام إيران، فإن لذلك معاني لا يجب إهمالها.
في المظاهرات التي انتشرت بضراوة داخل عشرات المدن الإيرانية في ديسمبر ويناير الماضيين سُجّلت مفارقة لافتة في الكيفية التي قرأت بها تيارات الحكم، المحافظة والمعتدلة، الحدث. اجتمع عتاة التشدد والانفتاح على إدانة هذه المظاهرات. المحافظون تعاملوا معها بصفتها ظواهر شغب، شاطرهم المعتدلون بذلك ولم يروا بها ما رأوه في “الثورة الخضراء” عام 2009. جرى تبادل التهم بين حكومة الرئيس حسن روحاني ومؤسسات الولي الفقيه وضواحيها حول السياسات الاقتصادية المتبعة والتي تسببت بتراجع المؤشرات الاقتصادية. والعجيب أن لا أحد من منابر إيران الرسمية تحدث حينها عن العقوبات الدولية ووقعها على الاقتصاد، وطبعا لا أحد استمع إلى هتافات المتظاهرين “لا غزة لا لبنان روحي فداء لإيران”.
بات مطلب خروج إيران من ميادين المنطقة مطلبا داخليا عاجلا. يعرف البازار، بما راكمه من خبرات في شؤون الاقتصاد، أن أزمة إيران الاقتصادية ليست تقنية يمكن حلّها بتدابير وإجراءات أو حتى بتغييرات حكومية. وبالتالي فإنّ مطلب انسحاب إيران من ورطاتها الإقليمية بات جذرَ أي خروج للبلاد من اختناقها الاقتصادي. وما تصدح به الحناجر في الشوارع وما يُهمس به داخل غرف الحكم الخلفية بات يتقاطع مع رغبة دولية جامعة لإعادة الظاهرة الإيرانية إلى حجمها الإيراني خلف الحدود.
قبل أيام ناقشت قناة “روسيا اليوم” أمر تحرك البازار. انصبّت أسئلة البرنامج بقسوة على ضيف البرنامج من طهران مُدينة مُستنكرة إنفاق إيران ثرواتها في سوريا، في وقت يعاني منه اقتصاد البلد إلى حد تنهار به العملة على نحو قياسي غير مسبوق. كان يسهلُ للمراقب أن يستنتج أن أبواق موسكو تشارك الإيرانيين تبرّمهم من تدخل نظامهم في الخارج، وأن يستنتج أيضا أن هذا الخارج بالنسبة لروسيا هو سوريا.
تكشف الجراحات الجارية في الجنوب السوري أن الأمر يسير وفق تفاهمات غير معلنة تُخرج إيران من منطقة خفض التصعيد في تلك الأنحاء. يستند السيناريو الراهن على الاستجابة لمطالب الأردن وإسرائيل بإخلاء المناطق على حدودهما من أي تواجد عسكري تابع لطهران. أعلنت واشنطن أنها لا توفر غطاء لميليشيات المعارضة، بما أفصح عن أن الصفقة الدولية كاملة لن تربكها أمزجة سورية ميدانية محلية. يراقب البازار أمر ذلك، فيسحب بدوره رعايته لنظام لم يعد العالم يريده خارج إيران.
"تمرد" البازار يعتبر زلزالا يهدد استقرار النظام الذي لطالما استند على تحالف غير معلن بين "البزنس" والمؤسسة الدينية في قم، فإذا ما سحب البازار غطاءه عن حكام إيران، فإن لذلك معاني لا يجب إهمالها
تتأمل طهران بتوجّس وقلق أكبر تهديد يتعرّض له نظام الجمهورية الإسلامية. ويتأمل المراقب عجز هذا النظام عن اجتراح دفاعات خلاقة غير وابل التصريحات النارية التي تصدر عن زعامات البلد وجنرالاته. والمفارقة أن طهران لا تقرأ أي أعراض عن خطط محتملة قد تهدد البلاد عسكريا، ومع ذلك تردُّ بكلام عسكري، فيما تقرأ بعناية موجات الضغوط الاقتصادية وتقف مشلولة أمام انهيار معلن إلى درك لا قاع له.
يعرف مرشد الثورة الإسلامية في إيران ونظامه أن إمبراطورية الاتحاد السوفييتي التي رانت على نصف الكرة الأرضية انهارت في لحظة مفاجئة صادمة على الرغم من امتلاكها ترسانة عسكرية نووية ضخمة. تفتت قصر السوفييت بعد حربهم في أفغانستان، فيما قد يتفتت نظام الولي الفقيه بعد الحرب في سوريا. وعلى ضفاف تلك الحرب يفتك الاقتصاد بجسد يتعملق غرورا داخل قفص يعبر شارع البازار وشوارع ما قبل ذلك عن خوائه.
أن يخرج البازار إلى الشارع فذلك يعني أن قطيعة تجري بينه وبين نظام الحكم. لم يكن البازار غريبا عن هذا النظام. كانت بعض وجوه البازار منخرطة داخل النظام وتمثل إحدى واجهاته. بدا أن الحرس الثوري ومؤسساته وجنرالاته باتوا ينافسون البازار في أنشطته الاقتصادية ويسحبون منه دوره ووظيفته التقليدية.
يتمرّد البازار. ولو تمرّد قبل سنوات لكان بالإمكان إخضاعه كما أُخضع أي تمرّد سـابق، لكن البازار يتمرّد في لحظة يدرك فيها أن نظام الولي الفقيه فقد قواه ولا يقوى على تدجينه. أهمية مراقبة تحرك البازار وانهيار العملة الإيرانية تكمن في أن تلك الأعراض تأتي قبل تفعيل العقوبات الأميركية الجديدة في أغسطس وتلك في الخريف المقبل، فما بالك بما بعدها.
تمضي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تصعيد ضغوطها على نحو لا يمكن إلا أن يقود طهران إلى طاولة المفاوضات كخيار وحيد لمنع انهيار نظامها. تبدو مسألة إيران قضية شخصية لترامب، ويبدو أن اتفاقه مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون خصّبه بديناميات قصوى للـذهاب بعيداً ضد طهران.
تعمل واشنطن على منع شراء النفط من إيران. نجحت الإدارة الأميركية في سحب كبرى الشركات الدولية من العمل في إيران وكشفت بقية دول العالم لا سيما تلك الشريكة في الاتفاق النووي عن عجزها عن مواجهة العقوبات الأميركية المهدّدة لشركاتها المتعاملة مع إيران. بالمقابل كان سهلا على روحاني وحكومته أن يلحظوا أن البلاد لا يمكنها التعويل على “الشركاء” الآخرين في العالم لرد عقوبات واشنطن وحردها من اتفاق فيينا الشهير.
على وقع تلك الحقائق يدور صخب البازار وتروّج ثرثرة حول استقالة روحاني وانتخابات مبكرة ومطالب بإجراء استفتاء على نظام الحكم. باتت إيران تحدث نفسها وبات النظام يأكل نفسه ويتحرّى سبلا لتغيير جلده. تفاخرت إيران كثيرا بأنها جزء من محور الشر الذي كانت واشنطن تَعِدُ العالم بتقويضه. في طهران من ينظر بقلق إلى انهيار أضلاع هذا المحور ضلعا بعد آخر.