محمد قواص يكتب:
هلسنكي: هل هي صفقة قرن أخرى؟
منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عزمه سحب القوات الأميركية من سوريا عرف الزعيم الروسي فلاديمير بوتين أن واشنطن لا تنافس موسكو في هذا البلد، وأن بقاء القوات الأميركية عرضي مؤقت. بيد أن سيد الكرملين لا شك أنه عرف أيضا أن واشنطن التي عزفت عن تنمية وجود عسكري علني لها في سوريا في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فعلت ذلك بشكل واسع نسبيا خصوصاً في عهد ترامب لاستخدامه حين تنبسط طاولة التفاوض ويروجُ زمن المقايضات.
سيذهب بوتين للقاء نظيره الأميركي منتصف هذا الشهر في ضواحي هلسنكي عاصمة فنلندا. للمكان دلالاته. فنلندا ليست عضواً في حلف الناتو، وسبق لها استضافة قمم الانفراج بين موسكو وواشنطن في العقود الأخيرة. يمتلك الرئيس الروسي من الحنكة والمكر ما يمكّنه من إدراك حدود قوته. يعرف أن تفوّقه في سوريا مستمدٌ أساسا من غياب قوة دولية منافسة، ومعتمدٌ في الأصل على قرار غربي بعدم معاندة الجهد العسكري على منوال ما حصل ضد القوات السوفياتية في أفغانستان.
غير أن رجل روسيا القوي يعرف أيضا أن الغرب الذي توفرت له ظروف التدخل في سوريا لم يفعل لأنه لا يريد أن يفعل، ذلك أن مصالحه هذه المرة لم تتطلب أي تدخل وفق أنساق حصلت سابقا ضد العراق وليبيا ودول أخرى في العالم.
يستطيع بوتين أن يتفاخر بأنه أنجز للغرب ما لا يريد الغرب التورط في إنجازه. وهو وإن لعب دورا لا يريدونه، فمن حقه أن يطالبهم بثمن ذلك في السياسة والأمن والاقتصاد.
لا يريد الاتحاد الأوروبي تقديم هبات لموسكو تعيد الاعتبار لروسيا التي ضمت شبه جزيرة القرم، وباتت تهوّل على الأوروبيين من على تخوم أوكرانيا. وربما بهذا المعنى لا ينظر الأوروبيون بعين راعية للقمة التي ستجمع بوتين وترامب في قلب اتحادهم في فنلندا.
بالمقابل لا يمتلك ترامب الشيء الكثير ليقدمه في القمة الموعودة المقبلة. قد يجوز له التدلل في كونه زاهدا في سوريا راحلا عنها ولو بعد حين، لكنه يعرف أن للجيواستراتيجيا قواعد، وأن إعلانه عن سحب القوات الأميركية من سوريا أمام جمهور أميركي محلي لا يعرف ربما أين تقع سوريا جاء مزاجيا “انتخابيا” سرعان ما أجبر على التراجع عنه. ومع ذلك فإن أداء روسيا “جيدا” في سوريا سيعيد الاعتبار إلى ميول ترامب الانسحابية، ويدعم موقفه في مواجهة مؤسسات واشنطن الأمنية والعسكرية والسياسية المتوترة حيال هذا الملف.
لا يمكن للمنظومة الغربية التي بنت عقيدتها التاريخية في مواجهة روسيا أن تسحب فتائل التوتر مع موسكو دون معالجة للاختراق الذي سجله بوتين في أوكرانيا، كما ذلك الذي أجمعت عواصم الأطلسي على اتهامه به إثر محاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج سيرجي سكريبال في بريطانيا في مارس الماضي.
لم يأبه بوتين كثيرا للغضب الغربي الذي اندلع إثر أحداث أوكرانيا والقرم وسكريبال، لكنه يحترم بدقة دفتر الشروط الدولي في سوريا. تولى بوتين برعاية كاملة من إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مباشرة مقاربته الخاصة لإنهاء الحرب في سوريا. كان واضحا أن واشنطن وحلفاءها الذين يناصبون نظام دمشق العداء لم يفعلوا ما يمكن يوما أن يسقط هذا النظام.
عرفوا تماما الوصفات السريعة لإسقاط أنظمة أفغانستان ويوغسلافيا والعراق وليبيا… إلخ، لكنهم تجاهلوا أمر ذلك في سوريا. بات الغرب في زمن آخر لا تستقيم داخله وصفات زمن قديم. وبات عليهم أن يخفوا بخبث رعايتهم الكاملة لما ترتكبه آلة الحرب الروسية في سوريا علها تجتث أوراما صارت تنفخ قيحها إلى قلب أوروبا إرهابا وكتل مهاجرين.
وفق دفتر الشروط الذي يعمل عليه بوتين في سوريا كان لإسرائيل الكلمة الفصل قبل فتح الستارة، ويبدو أن لها الكلمة الفصل قبل إسدالها. أباحت العملية الروسية لإسرائيل التصرف على هواها في سوريا كلما لاح لها خطر على أمنها. رعت موسكو ذلك تماما، غضت الطرف عن العمليات العسكرية الجوية والصاروخية الإسرائيلية ضد أهداف تخضع لطهران وميليشياتها التابعة، وربما سهلت لها ذلك. وسهرت موسكو على تلبية مطالب إسرائيل بإخلاء المناطق الحدودية المحاذية للحدود السورية الإسرائيلية من أي تواجد إيراني.
قد يجافي الدقة القول بأن ترامب ذاهب لإبرام اتفاق حول سوريا في هلسنكي. واشنطن وموسكو متفقتان في هذا الملف منذ عام 2015، حين بدأ بوتين حملته السورية. واكبت الدبلوماسية الأميركية عمليات حمص وحلب والغوطة، وهي تواكب هذه الأيام العملية الروسية في جنوب سوريا. أبلغت واشنطن ميليشيات المعارضة في تلك المنطقة بأن لا تستند على دعم أميركي. هذا يسمى في علم العسكر تواطؤا، وفي علم السياسة ماكيافيلية. وعليه فإن الغرب بزعامة الولايات المتحدة يشارك روسيا في قتل أحلام المعارضين والنفخ في عودة النظام ليكون ممثلا شرعيا لسوريا.
قد تكون أوروبا أمام أسوأ عهد في علاقاتها مع الولايات المتحدة. أدارت واشنطن الظهر لأوروبا حين قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وأدارت واشنطن الظهر لأوروبا حين هددت بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي ستستمر بالعمل مع طهران. وها هي واشنطن تعود لإدارة الظهر لأوروبا إذا ما جاء التقارب بين بوتين وترامب على حساب مصالح أوروبا الأمنية والسياسية والاقتصادية في معاركها ضد روسيا المندفعة نحوهم.
على ذلك فإن بوتين الثعلب سيتسلح بالموقف الأوروبي الضبابي من إيران لدفع الضغوط الأميركية الإسرائيلية عنه بشأن مستقبل إيران في سوريا. لسان حال بوتين يقول: إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل عاجزتين عن إقناع حليف تاريخي مثل الاتحاد الأوروبي على السير بما يريدانه لكبح جماح إيران في المنطقة فلماذا يُطلب من بوتين الخصم أن يجاري تلك الرياح؟ إلا إذا كان ترامب يحمل إلى هلسنكي حججاً مفحمة تقنع روسيا بالانقلاب على علاقات جوار تاريخية مع إيران، وهو لا شك أمر مستبعد.
لا يمكن مقارنة قمة بوتين – ترامب بقمة هذا الأخير مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. يبدو بوتين في وضع مريح على كافة الجبهات، يفرض جدول الملفات التي يقبل نقاشها مبعداً ملف أوكرانيا الذي لا يروق له. لا ينسحب أمر ذلك على الزعيم الكوري الذي لا يملك من القوة إلا تلك الترسانة النووية التي كلما كبرت كلما غرقت بلاده في جورة الفقر.
قد يقال إن قمة هلسنكي ستحدد معالم التقارب بين واشنطن وموسكو دون اتفاق كامل، كما حددت قمة سنغافورة الأميركية الكورية الشمالية معالم الانفراج بين البلدين دون اتفاق كامل. غير أن الثابت في العلوم الاستراتيجية أن ترامب انتزع من خصومه الكثر في الولايات المتحدة الخضوع لمقاربته الشهيرة منذ أن كان مرشحا للانتخابات الرئاسية، والذي يقرأ علاقة بلاده بروسيا قراءة براغماتية متخلصة من آثام عقائدية تحوّل روسيا إلى شريك نتفق ونختلف معه وفق شروط العرض وقواعد الصفقات.